أكثر النواب اللبنانيون في كلماتهم خلال مناقشة البيان الوزراي لحكومة نوّاف سلام، من الكلام على “الدولة العميقة” محذرين من تحكمها بلبنان، في المرحلة المقبلة. فما هي هذه الدولة. “نيوزالست” سبق أن نشر مقالا للباحثة السياسية منى خويص، مخصص للتعريف بالدولة العميقة. وفي ما يأتي نص المقال.
لا يحتاج لبنان إلى التفاف كلّ القوى السياسية حول اتفاق الطائف، بقدر ما يحتاج الى أن يُعاد الاعتبار للدولة القائمة، والخروج من الدولة العميقة التي همّشتها وجعلت مؤسساتها مجرّد إطار، بعدما نجح أرباب الدولة العميقة في الإمساك بالمؤسسات. فما هي هذه الدولة العميقة في لبنان؟ وممّا تتشكّل؟ وكيف تطوّرت؟
إنّ مفهوم “الدولة العميقة”، على الرغم من تداعياته، لا يزال ملتبس التعريف ويتداخل مع عدد من المفاهيم في الأدبيات السياسية، على مثال: “حكومة الظل”، “الدولة داخل الدولة” و”الدولة الموازية”.
ويختلف واقع “الدولة العميقة” بين دولة وأخرى، وذلك بالنظر الى نظامها السياسي وظروفها التاريخية والسياسية. وفي بعض الأحيان، تتوافق “الدولة العميقة” مع توجهات الدولة القائمة.
ولكن، مهما كان عليه الأمر، فإنّ وجود الدولة العميقة يبيّن ضعف الدولة القائمة. الدولة العميقة ليست “دولة ضمن الدولة” فقط لأنّها قد تكون، أحيانًا، هي الدولة ذاتها
ويلاحظ المحلّلون أنّه كلّما تجذرت الديمقراطية الحقيقية والمحاسبة وتداول السلطة ودولة القانون، ضعفت الدولة العميقة. والدولة العميقة، وفق ما يعرّفها البعض، هي قوة تهيمن على مجرى الحياة السياسية في الدولة، وهي تعمل إما من خارج إطار النظام السياسي لضبطه وضمان انصياعه لتكون في خدمة قوى غير منتخبة، أو أن تكون جزءًا من النظام السياسي لكنّها تقوم بإعاقته، ويتّسم عملها بالغموض والسرية لأنّها تخرق الدستور والقوانين بشكل واضح من خلال عمليات التزوير والفساد وإلغاء المعارضين بالسبل المتاحة (من الاعتقال الى الاغتيال).
ويعتبر البعض أنّ لهذه الدولة طبيعة شبكيّة، اذ تبدو على شاكلة بناء شبكي متراص يتكوّن من العناصر الرفيعة في النظام التي تجمعها مصالح اقتصادية ومشاريع تجارية ومالية وعلاقات اجتماعية.
تتشارك كلّ تعريفات الدولة العميقة بسمة واحدة: الفساد
ويجد البعض أنّ الدولة العميقة ليست “دولة ضمن الدولة” لأنّها تكون هي الدولة ذاتها، بتراتبيّتها المؤسساتية، وبتنظيمها العامودي والافقي، وبأجهزتها الأمنية، وبادوات التضليل التي تنشئها، وبأطرها الإعلامية والثقافية والدينية.
ويهدف أرباب الدولة العميقة إلى حماية مصالحهم الذاتية وحمايتها، من دون إعارة أي اهتمام للصالح العالم.
وتتشارك كل تعريفات الدولة العميقة بسمة واحدة: الفساد!
ويتّفق المحللون على أنّ انتشار الفساد بشتى صوره وأنواعه هو البيئة الخصبة لرجال لدولة العميقة، من أجل إيجاد فرص ذهبية للثراء الشخصي والمنفعة الذاتية.
وحيث تسود الدولة العميقة تصبح الدولة القائمة عاجزة عن فرض سلطتها وهيبتها لأنّ هناك من يمسك بكل مفاصلها ويستعملها لصالحه وليس للصالح العام.
الدولة العميقة متواجدة في لبنان بكلّ اشكالها وهي قضت على الدولة القائمة
بدأ الحديث عن مفهوم الدولة العميقة في تسعينيات القرن الماضي والبعض يعتبر أنّها كانت موجودة في معظم النظم السياسية منذ تشكل هذه الاخيرة إلّا أنّ الجدل حولها وطرحها هو الذي جاء متأخرًا.
البداية كانت في تركيا (derin devlet) وتمّ تعريفها على أنّها مجموعة من التحالفات النافذة والمناهضة للديموقراطية داخل النظام السياسي التركي وتتكون من عناصر رفيعة المستوى داخل أجهزة المخابرات المحليّة والأجنبية، والقوات المسلحة التركية والأمن والقضاء والمافيا.
في فرنسا تُسمّى بـ( Etat profond) وفي اميركا بـ) Deep state ).
وقد عرفها المجتمع السياسي من خارج أطر الحكم، كما وعرفها عدد كبير من الدول العربية، أمّا في لبنان، فالدولة العميقة متواجدة بكافة اشكالها وهي تتفوّق على الدولة القائمة لا بل غيّبتها وقضت عليها وأفرغها من مضمونها، فلبنان محكوم، منذ ما بعد الطائف، من الدولة العميقة الممثّلة بأحزاب طائفية حوّلت النظام فيه من برلماني ديموقراطي الى نظام للمحاصصة الطائفيّة والمذهبيّة، وقد نجح فيه فريق لبناني في إنشاء دويلة الى جانب هذه الدولة العميقة المتجذرة من داخل المؤسسات مدّت جذورها إلى داخل الدولة، وتمكّنت ،بفعل مقدراتها التي تفوق مقدرات الدولة وتحديدا القدرات العسكرية، من التربّع على عرش الدولة العميقة، والاستثئار بها، حتى باتت هي التي تقبض على كل مفاصل الحياة السياسية، وهي، من أجل أن تحظى بتغطية سياساتها أطلقت العنان لحلفائها في السياسة لوضع اليد على مقدرات البلاد ونهب ثرواتها، يتلاعبون بالاستحقاقات المصيرية للبنان بغض النظر عن الآليات الديموقراطية التي تكاد تكون صوريّة، لا بل اصبحت صوريّة.
نشر المقال الكامل في 9 تشرين الثاني 2022