لم يأتِ ميلاد الطفل يسوع، وفق الرواية الإنجيلية التي يقدمها متّى الرسول، هانئَا ومسالمًا، بل جاء عاصفًا ودمويًّا.
لم تتم ولادة “الطفل السماوي” في منزل والديه بل في مغارة يستعملها الرعاة مأوى لماشيتهم، ولا في سرير بل في مزود.
نستطيع نحن أن نتعاطى مع هذا الحدث بكثير من الرومانسيّة، لأنّنا نفصل أنفسنا عن الظروف القاهرة التي حرمت والدي هذا الطفل من أن يكون لهما مكان بشري يستطيعان فيه أن يولدا طفلًا يحتاج الى النظافة والدفء، وأمًّا يجب أن تتوافر لها وسائل الراحة.
ومنذ ولادته، تعرّض يسوع ووالداه لشتى أنواع الصعاب، إذ اضطرّتهما ملاحقة الملك هيرودس الذي فهم من مجوس احترفوا قراءة علامات الكواكب أنّ الطفل المولود في بيت لحم سوف يكون الملك المقبل، ( أضطرّتهما) على الهروب الى مصر، باحثين عن الحماية والأمن.
وبهذا المعنى، واكبت واحدة من أبشع المجازر ولادة الطفل يسوع، إذ إنّ هيرودس الذي كان يجهل هويّة “الملك المقبل” أمر بقتل جميع الأطفال الذين ولدوا، في بيت لحم ومحيطها، من عمر يوم واحد الى عمر سنتين.
وهكذا سجل التاريخ الكنسي يسوع ووالديه في قائمة النازحين واللاجئين، كما ربط ولادته بواحدة من أفظع الجرائم السلطوية.
وعلى الرغم من أنّ الرواية الإنجيليّة تربط مجريات ولادة الطفل يسوع، منذ اللحظة الأولى لتكوّنه في رحم مريم العذراء، بقرار إلهي، إلّا أنّ الله لم يتدخل لا لتوفير منزل لطفله، ولا لرعاية والديه المشرّدين، ولا حتى لقطع لسان هيرودس من أجل منعه من إصدار أوامر بارتكاب مجزرة بحق أطفال بيت لحم وجوارها.
إنّ الهدف من إعادة قراءة هذه السرديّة الإنجيليّة بسيط للغاية، بحيث يتبيّن أنّ البشر، حكامًا ورعايا، لم يتغيّروا في الجوهر، على الرغم من كل الثورات التكنولوجيّة، فهم قتلة وضحايا، في حين أنّ السماء لا تتدخل في شؤون الأرض وشجونها، إذ تترك البشر يتدبّرون أمورهم كما يحلو لهم.
في عيد الميلاد، منذ وُلدتُ على الأقل، ومنذ ألفين سنة ربّما، تتكرّر التمنيات نفسها وتتصاعد الصلوات نفسها، علّ السماء تنعم علينا بالسلام والطمأنينة والأمان والرفاهية.
والسماء، منذ ولدتُ على الأقل ومنذ ألفين سنة ربّما، لا تستجيب. ولا غرابة في الأمر، فهي أفهمتنا، منذ وضع متّى الرسول إنجيله، أنّها ليست مطبعة مال، وليست جمعيّة خيريّة، وليست تجمّعًا دبلوماسًّا، وملائكتها، حتى لو توهّمهم كذبة هذا العصر مقاتلين، ليسوا قوة لا لانتصار طرف على آخر ولا حتى لحفظ السلام.
لا يهم إن انحرف البعض الى تكفيري، فأنا، في مكان ما، لا أؤمن بما يريده الآخرون أن أسلّم به!
ومنذ تكوّن وعيي على السرديّة الإنجيليّة للميلاد، وأنا متيقن من أنّ الصلاة في جوهرها تهدف الى تصليب النفس ضد إغراءات التطرّف والجريمة، وتهذيبها من أجل تقبّل شظف الحياة وتقلّباتها، وتجهيزها من أجل أن تكون كريمة مع المحتاجين، وداعمة لسعاة السلام.
ما يحصل من مآسي في هذا الشرق الذي اختاره الله ليولد فيه الطفل يسوع، لا يزال يتكرر، منذ ألفين سنة على الأقل.
الطامة الكبرى أنّ صانعي الموت، وهم أحفاد هيرودس الذي قتل الأطفال من أجل العرش، يزعمون جميعهم من دون استثناء أنّهم..أبناء الله يُدعَون!
في هذا العيد، أتمنّى أن نتمكن يومًا، بوعي وجهد وصلابة، من تخليص أنفسنا من ال هيرودوسيّين الذين يتوارثوننا ضحايا من جيل الى جيل، وأن يستحق المؤمنون بالحياة الأبدية ملكوت السماوات التي فتح ميلاد الطفل يسوع أبوابها أمامهم!