في ملحمة “جلجامش”، تقدّم الآلهة عشتار، المتعلّقة حتى الجنون ببطل الرواية السومري، كل أنواع الوعود والمغريات، لتعود وتنتقم بتدبير مكيدة قاتلة بعد أن مُنِيت مساعيها بالفشل. أداء عشتار هذا تجاه حبيبها جلجامش، هو خير تفسير لسلوك الشخص المتحرّش الذي يحرّكه الشغف، فيطارد ضحيته من خلال مراقبتها وتقصّي المعلومات عنها والتجسّس عليها وتقديم الوعود لها، ويأخذ على نحو سيء أي رفض، وغالبًا ما يكون هذا الشخص معجبًا سرّيًا أو حبيبًا سابقًا أو زميلًا مفتونًا…
كثيرة هي الدراسات التي خُصّصت لفهم خفايا تفكير المتحرّش وفكّ “طلاسم” سلوكه، وقوانين كثيرة بدأت تتزايد بشكل ملحوظ في جميع أنحاء العالم لمعاقبة هذه الممارسات، وميزانيات ضخمة وضعت في خدمة أبحاث علّها تحدّد ماهية هذا الاضطراب وتوضّح طبيعته المرضية وتُطوّر من استراتيجيات الوقاية منه.
من هم المتحرّشون!؟
في علم الجريمة يطلق على الشخص الذي يقوم بمثل هذه الأفعال اسم “المتحرّش”، وفي علم النفس هو ذلك المولع الذي يتمتّع بإرادة قويّة ومثابرة صلبة، بحيث يحاول بشتى الطرق ممارسة الإغواء للفوز بمبتغاه. ويقول الخبراء: قد يكون شريكًا سابقًا، أو عريسًا مرفوضًا، أو معجبًا غير كفوء أو منتقمًا لكرامته أو مهووسًا جنسيًا…
ويقول نيكولاس لومبري، عالم الجريمة في جامعة إيدج هيل في المملكة المتحدة، ” قد يكون على علم بذوق وعادات ونقاط ضعف ضحيّته التي تستبعد فكرة أن يشكّل خطرًا عليها لأنها، في بعض الأحيان قد تكون لديها مشاعر تجاهه، فهي تقبل بسهولة بعض السلوكيات منه قبل أن تدرك سوء نياته”.
إلا أن ما يثير الريبة، هو أنّ المتحرّش على الرغم من تكرار فعلته يبقى مجهولًا، فوفقًا لإحصائيات أُعدت في ويلز في إنجلترا، تبيّن أنّ حالة واحدة فقط من بين ٥٠ يتم الإبلاغ عنها، وحالة واحدة من بين ٤٣٥ يتم اتهامها، وحالة واحدة من بين ١٠٠٠ تتم إدانتها، ما يفسّر الشعور بعدم الأمان الذي يلازم الضحية فيقلب حياتها رأسًا على عقب ويضطرها إلى تغيير مسكنها ومكان عملها وإلغاء حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي والابتعاد قدر الإمكان عن المناطق التي يقطنها المتربّص بها.
أيهما أخطر الرجال أو النساء؟
أول ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن التحرّش هو أن المطاردين هم حصرًا من الرجال، وأنّ النساء هنّ الضحايا، لكن الدراسات أظهرت أن المرأة متى قررت التربّص برجل ما ومطاردته، قد تلحق به أضرارًا معنوية وجسدية جسيمة، ففي دراسة أعدّها دومينيك غاماش، الباحث في جامعة كيبيك الكندية، حيث قام بجمع بيانات من عيّنة تضم حوالي ١٥٠٠ بالغ من الجنسين تتراوح أعمارهم بين ١٨ و٣٠ عامًا، تبيّن أنّ الصفّة الأكثر ملازمة للنساء هي “الخداع” إذ غالبًا ما يحاولن لتلبية احتياجاتهن الشخصية، الحصول على علاقة من دون الأخذ بالاعتبار رغبات الطرف الآخر، بينما يعتبر الرجال أنّ المطاردة المتواصلة والتصرّفات الجريئة نوع من الرومانسية، وخلص غاماش إلى أنّ ما يشكّل القاسم المشترك بينهما والذي يزيد من خطورة العنف، هو فشل العلاقة والحب غير المتبادل.
ما الذي يتوجّب القيام به عندما يتعرّض الشخص للتحرّش؟
في دراسة أعدّتها في العام ٢٠٢١ عالمة النفس والباحثة في جامعة تاوسون في الولايات المتحدة كريستينا دارديس، سألت خلالها مجموعة من النساء كنّ قد تعرضن للتحرش عن الاستراتيجيات التي يمكن استخدامها لمواجهة المتحرّش، بدا لافتًا أن الإجابات جاءت متنوعة، ففي حين ارتأت بعضهن ضرورة مقاومة المُطارِد، فضّلت أخريات المواجهة بالمنطق، بينما رأت فئة ثالثة بأنه لا مفر من مقاضاته للحدّ من أعماله، إلا أنه بعد ثمانية أسابيع من العمل مع هؤلاء السيّدات، تبيّن أن أيًا من هذه المنهجيات لم تُجْدِ نفعًا.
علاج المتحرّش
في خلاصاتها المستوحاة من التجارب المعتمدة في علاج المصابين بالاضطرابات الشخصية، تركّز كريستينا دارديس على المشاكل الشخصية للمتحرّش، فبعدما اعتمدت هذا العلاج على ستة متحرّشين سابقين، أدركوا خطورة تصرّفهم وأثره على حياتهم الشخصية، وكلفته على الضحايا، بات لديهم الانطباع بأنهم اكتسبوا استراتيجيات للتحكّم في مشاعرهم، مما يعني أنّ الجهل قد يكون المسؤول الأول عن أعمالهم، من هنا وجدت دارديس أنه لمحاربة هذه الآفة، يجب الاعتماد على برامج تثقيفية مناسبة لما لها من تأثيرات إي جابية خصوصًا على أولئك الذين يقومون بفعلتهم من دون علمهم.
وتبقى التوعية بالمعايير الاجتماعية هي الأسلم، خصوصًا لتلك الفئة التي “تتحرّش ظنًّا منها أنها تغازل”، والتوعية تكون بتنظيم برامج تثقيفية واسعة النطاق تركّز “جهودها “الإنقاذية” على الجميع من دون استثناء، بدءًا من الشركاء السابقين الذين هم أكثر خطورة، مرورًا بصناع القرار والسياسيين والعسكريين والمدرّسين والسجّانين وصولًا إلى الطلاب والباحثين والصحافيين المتخصصين في هذا المجال، وذلك للتصدّي للأساطير المنتشرة، ودحض فكرة أنّ الحب والغيرة المسبّبان الرئيسيان للتحرّش، ما هما إلا خير دليل على الرومنسية.