"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث

المطران بولس مطر/ رسالة إلى الإخوة المواطنين الشيعة في لبنان

الرصد
الثلاثاء، 11 يوليو 2023

المطران بولس مطر/ رسالة إلى الإخوة المواطنين الشيعة في لبنان

بقلوب محبّة وأفكار تبتغي معرفة الحق فوق كلّ معرفة، نتوجّه إليكم أيها الإخوة المواطنون #الشيعة الأحباء لننقل إليكم نظرتنا إلى أوضاع وطننا العزيز #لبنان وإلى العلاقة الخاصة التي قامت بيننا على مدى الزمن الذي عشناه معًا في ربوع بلادنا الخيّرة.

لقد التقينا تباعًا على هذه الأرض منذ بدايات الاسلام، شيعة وسنّة ودروزًا ومسيحيين من موارنة وارثوذكس وكاثوليك وسواهم، وتفاعلنا بعضنا مع بعض روحيًّا واجتماعيًّا وانسانيًّا في كلّ بقعة من بقاع هذا الوطن الذي كوّنا هويته الخاصّة والذي كوّن بدوره هويتنا المشتركة وأسبغ علينا قيم حضورنا ورسالتنا على مدى الشرق برمّته.

ولقد شجّعنا على هذه الكتابة صاحب السماحة السيد حسن نصرالله الأمين العام ل#حزب الله في لبنان، الجزيل الاحترام، حين وجّه أخيرًا رسالة مفتوحة إلى المسيحيين اللبنانيين عبر خطاب ألقاه على شاشات التلفزة في عاصمتنا بيروت، فنستنح الفرصة أوّلاً لنعرب لكم نحن المسيحيين عموما والموارنة خصوصا عمّا نكنّه لكم من مشاعر المودّة والاحترام لِما زرعه أبناؤكم في الجنوب من طيبة دخلت قلوبنا، وقد طبعوا عليها نعمة نزلت فيهم من العلاء، وللمحبة التي تجلّت لدى كبرى عائلاتهم في هذه المنطقة العزيزة عندما مدّت يد العون لجيرانها من أبنائنا المسيحيين، يوم تعرّضنا للجوع القاتل إبّان الحرب العالمية الأولى، ولأخوّة تجلّت في أهل البقاع منكم، الذين أقاموا مع أهلنا في جبّة بشري وتوابعها حلفًا دُعي حلف الدم، وهو يقضي بتدخل أي من الطرفين لإعادة الصلح والسلام إذا اعترى الطرف الآخر نزاع داخل صفوفه، سواء أكان على السفح الغربي من جبال الأرز أم على سفحه الشرقي الذي يشمل مناطق بعلبك والهرمل ودير الاحمر وسواها.

كما يجب التنويه في هذا المجال بأن التاريخ لم يسجّل لا في الماضي البعيد ولا في الماضي القريب أي عداوة موروثة قامت بيننا وبينكم ولا أي نزاع مذهبي المنحى أو طائفي. وما الإشكالات التي حصلت أو تحصل حول ملكية أرض أو إظهار حدود سوى أحداث محلية الطابع، لها نظيراتها ضمن العائلات الواحدة، صغيرة كانت أم كبيرة. بل نحن قاسينا معًا مصائب كبرى في التاريخ حلّت بنا من جرّاء حكم المماليك علينا أو لثقل نير العثمانيين الذين حكموا بلادنا على هواهم طوال أربعة من القرون.

أمّا عن التاريخ المشترك لبلادنا وبالعودة إلى عصوره القديمة منها والوسيطة، فإن صفحات خالدات سُجلت في سياقه. ونذكر أوّلاً في هذا المجال ما يخص فيه الجنوب وأهله، منتقلين في ما بعد إلى أواسط البلاد وشمالها وسائر أصقاعها شرقًا وغربًا. إنّنا فخورون كمسيحيين لكون البشارة بالإنجيل قد دخلت إلى لبنان عبر صور وصيدا منذ ألفي سنة، أي من السنوات الاولى لانتشارها خارج فلسطين. وما قول بولس الرسول في سِفر أعمال الرسل من الكتاب المقدس، الذي روى فيه أنّه نزل إلى صور ليتفقد الاخوة المؤمنين في تلك المدينة العزيزة، سوى دلالة على النعمة التي نزلت على لبنان بهذا الانتشار المسيحي العائد إلى بداية المسيحية بالذات. ولقد كانت هذه النعمة ثمرة من ثمار زيارة السيد المسيح لبلادنا في تلك الأنحاء، إذ سكبت على أرضنا ولمجرد حدوثها صفة القدسية والقداسة. ونحن فخورون لكون المسيحية في هذه المدينة ما زالت تنعم منذ ألفي سنة الى اليوم بحضور ودود فيها يشعّ بالمحبة والصداقة وحسن اللقاء.

ونحن فخورون أيضًا في ما يعود لتاريخ منطقة الجنوب من بلادنا ولا سيما في البقعة التي يُطلق عليها، مع اسم جبل عامل، اسم آخر محبب على قلوبنا، هو اسم “بلاد بشارة”. فإن هذا الجبل الأبيّ العزيز قد أشعّ في تاريخ الشرق كمنارة عِلم وفقه وتُقى ضاهت بمرجعيّاتها الروحية على مدى العصور منارات للشيعة اشتهرت عالميًّا سواء أكان في “قم” أم في “النجف الأشرف”. وان كنوز المعرفة التي قدّمها جبل عامل إلى الأديان عمومًا وإلى الاسلام خصوصا هي مصدر ثروة حضارية وثقافية لا تضاهى وهي تغني تراث لبنان الروحي الذي تنهل منه كل طائفة فيه ويستنير به كلّ مواطن.

على أنّ هذا الجبل العاملي لم يكن لا روحيًّا ولا وطنيًّا منفصلا عن سلسلة جبال لبنان. بل هو أيضًا رعى منذ القديم ولا يزال يرعى اليوم العيش المشترك بين أبنائه جميعًا. فالمسيحية منتشرة في الجنوب من صور نفسها الى عين إبل ورميش وبنت جبيل والنبطية وصولاً إلى مرجعيون والقليعة وسواها، من دون أن ننسى العيش المسيحي الاسلامي الأصيل بدوره في صيدا وجوارها في ظلال سيدة المنطرة في مغدوشة وصولاً إلى جزين وكفرحونة والجوار. وما نؤكّده عن هذا العيش الكريم في منطقة الجنوب يصحّ أيضًا في سائر المناطق التي يسكنها اخوتكم الشيعة في البقاع الشمالي والاوسط كما في البقاع الغربي. وخير دليل على ذلك إقامة راهبات مريم الصغيرات في منزل كريم من منازل الهرمل، والترحيب المقدَّم لهنّ من قِبل سكان المدينة جميعًا. وهو صنو الترحيب الذي تلقّته الراهبات الأنطونيات في إحدى مدارسهن الشهيرة في مدينة النبطية. وإن هذا الحفاظ على العيش المشترك في الاطراف اللبنانية المذكورة هو أيضًا قائم في جبل لبنان حيث التقى المسيحيون بمواطنيهم الشيعة وحيث حافظ بعضهم على بعض إبّان المحنة التي عصفت بلبنان في نزاعاته الأخيرة. وقد تجلّت هذه المواقف الحضارية بأبهى صورها في بلاد جبيل حيث أصرّ القيّمون فيها خلال أصعب الأيام على ألا تتعرض وحدة الحياة الآمنة في ربوعهم لأي خطر ولا تُمس بأي مكروه.

لبنان العيش المشترك ولبنان الحرية إنّ واقع العيش المشترك المتساوي والحرّ في لبنان ليس أمرًا عاديًّا يشبه مثيلات له في تاريخ المنطقة وجغرافيتها. فاللقاء الطيّب الذي حصل بين مجمل الطوائف التي يتألف منها الشعب اللبناني كان لقاء بين جماعات سكنت هذا الوطن لتعتصم بجباله سعيًا منها وراء عيش آمن لمعتقداتها وحفاظًا على خصوصياتها والقيام بعباداتها وممارساتها على ما تشاء. وبهذا المعنى أيضا حصل التلاقي على الاهداف والغايات بين قاطني السلسلة المتكاملة من جبال لبنان. ففي شماله كانت نواة الوجود الماروني الذي انتشر بعدها على كل أرض لبنان. وفي أواسطه كانت نواة الوجود الدرزي وبخاصة في القسم الجنوبي من الجبل الاوسط. وفي جنوبه كانت أيضًا نواة الوجود الشيعي وبخاصة في جبل عامل المذكور أعلاه. أمّا الوجود السني فقد انتشر بخاصة في المدن الكبرى مثل بيروت وصيدا وجوارها وطرابلس وفي البقاع الغربي كما في شمال البلاد. ومن المعروف أن منطقتنا العربية في هذا الشرق قد خضعت في التاريخ لسلطات امبراطورية متعددة منها: سلطات الخلافة الراشدة كما الاموية والعباسية وسلطات المماليك والسلطات العثمانية التي هيمنت على المنطقة حتى بدايات القرن العشرين. وفي ظلال هذه السلطات لم تكن حرية المعتقد مؤمّنة دومًا وبالكامل، وبصورة متساوية بين الطوائف. وهذا ما دفع بكلّ منها إلى السعي نحو تأمين أجواء الحرية لعباداتها وللحفاظ على معتقداتها من أي إكراه، كما دفعها السعي المتشابه عندها إلى التفاعل في ما بينها، لأن مطالبها بالعمق كانت واحدة، ما يعني أنّ الطوائف القديمة في لبنان لم تكن تتعمّد عزل ذاتها عن عالمها العربي الواسع ولا عن تطلعات المنطقة إلى حقوقها المشروعة في الحياة، بل كانت تطالب بالحرية وعلى رأسها الحريّة الدينية الكاملة وبالمساواة في المواطنة على الارض الواحدة. وما لم يكن سهل التحقيق على مستوى المنطقة حاول أهل لبنان من سائر الطوائف أن يحققوه لأنفسهم في إطار مجتمع خاص بهم وأن ينقلوا أحلامهم هذه إلى حيّز الوجود. هكذا تأمّنت المساواة في المواطنة ضمن نص الدستور اللبناني الاول لجميع اللبنانيين بمن فيهم الإخوة السنّة الذين استفادوا من الحرية الكاملة في لبنان كما أفادوا لبنان بفتحه على العالم العربي الواسع في آنٍ واحد.

والحق يقال إنّ لبنان قد تقدّم أشواطًا كبيرة نحو تحقيق الشروط المطلوبة لدى كل مجتمع لتأسيس العيش المشترك المتساوي بين أبنائه، والضامن للحرية الكاملة للجميع وبكل أبعاد هذه الحرية. لذلك تجدر المقارنة في هذا المجال بين لبنان وسائر دول المنطقة. فنرى على سبيل المثال أن أزمات عميقة تحدث اليوم في محيطنا العربي الواسع، حتى بين المذاهب الإسلامية، كما في العلاقة مع المذاهب الاخرى. فالتشيّع إلى اليوم ليس مرغوبًا به في بعض دول المنطقة، والصراع بين السنّة والشيعة قائم في دول عديدة من دون أن تتوصّل هذه الدول بعد إلى إرساء دساتير لها تكرّس حرية الفرد فكرًا وعملًا وحريّة الجماعات في التعبير عن نفسها وعن تطلعاتها المشروعة كافة. فالعراق يحاول تخطي أزماته عبر الاقرار بضرورة تأمين الحقوق المتساوية للجميع وتبنّي دستور يضمن هذه الحقوق وإقامة الأطر الكفيلة بنقل هذه الامور إلى حيّز الواقع. وسوريا لم تصل بعد إلى وضع دستور جديد لها يضمن الحرية والحقوق للجميع من دون استثناء. أمّا في دول الخليج العربي فهناك نار مشتعلة والنفط بقربها ضمن دائرة الخطر، مع الامل بالوصول بالأمور هذه إلى تأمين المساواة في المواطنة بين الجميع؟ أمّا في المغرب العربي فهناك محاولات تجري كما في مصر لضمان المساواة الكاملة بين جميع مكونات الشعب أو ضمن الجماعة الواحدة المتواجدة في بعض البلدان. لكننا ما زلنا بالنسبة إلى تحقيق هذه الأماني دون المستوى المنشود، بانتظار غد أفضل لدولنا العربية شرقًا وغربًا. لذا استحق لبنان الاعتراف العالمي بخصوصيته الإنسانية، ونحن نغتبط بشكل خاص هنا بما قاله الرئيس الإيراني الأسبق السيد محمد خاتمي الذي أشاد مرارًا بقيمة لبنان المضافة للدول أجمع وبدوره المتقدم في صناعة الحوار وممارسة التعايش المتساوي والحرّ على مدى العالم!

لهذا فإنّ المقارنة في هذا المجال بين وضع لبنان حتى في أيام أزمته الخانقة، وأوضاع البلدان العربية بمجملها تدلّ على وضع مميّز في لبنان، نظرًا لأسبقيّته في تبنّي قيم التلاقي ضمن الوحدة والحرية والمساواة في آنٍ واحد. فلماذا لا نقدّر ما تحقّق في بلادنا من تطوّر خلاّق في هذا المجال؟ ولماذا يُركز البعض منّا على السلبي وحده بدلاً من إظهار التحسن الكبير الذي حصل عندنا في أكثر المجالات وبفعل خيارنا الارتباط بلبنان الكبير؟

إن لبنان قد وفّر فرصة للاخوة الشيعة والسنّة أن يشاركوا معًا في حكم البلاد وبصورة واضحة المعالم. أفلا يُحسب ذلك تقدّمًا بالنسبة إلى ما جرى في بعض بلاد العرب حولنا من أحداث وعلى مدى قرن برمّته؟

الشيعة في دولة لبنان الكبير إن لبنان الكبير الذي أُعلنت دولته في الأول من أيلول سنة 1920 في قصر الصنوبر في بيروت على يد الجنرال غورو ممثل الدولة الفرنسية وبحضور البطريرك الياس الحويك وسماحة مفتي بيروت السنّي وجماعة من القادة اللبنانيين، لم يكن صنيعة الغرب الاستعماري كما يظنّ البعض، بل كان تحقيقًا لحلم شعب عرف المظالم في التاريخ ونهض في العصور الحديثة بواسطة العلم والثقافة والصناعة والتجارة لتكريس المساواة في المواطنة بين جميع أبنائه والشراكة في الحكم بين مسيحيّيه ومسلميه والحرية الكاملة للمعتقد والضمير. فكان الدستور الذي وُضع لهذه الدولة الناشئة منذ العام 1926 أكثر دساتير المنطقة انفتاحًا وتقدّمًا على غير صعيد. والحق يقال إنّ هذا التكريس للبنان الكبير كان تكريسًا للهوية الخاصة التي تبلورت له في ظلال حكم الامارتين المعنية والشهابية وفي ظل التقدم الحاصل في المجتمع اللبناني زمن المتصرفية من العام 1864 إلى العام 1914.

في بداية هذه الحقبة من تاريخ لبنان يبدو ولأوّل وهلة أنّ اللبنانيين لم يكونوا مجمعين حول هذه الفكرة اللبنانية الطالعة. فبعضهم كان يفضل حكم الملك فيصل في دمشق من دون أن يكون هذا الموقف رافضًا للحرية الدينية التي تمسّكوا بها على مرّ الزمن وللعيش المشترك القائم في بلادهم. انما كان موقفهم هذا ناتجًا ربما عن تصوّر بأنّ الحكم الآتي في لبنان سيجدّد زمن الصليبيّين الذي انقضى. وكان بعض المسلمين السنّة يفضلون أيضا حكم الملك فيصل إيّاه. لكن حقيقة الدولة اللبنانية الطالعة كانت على غير هذا القصد. فالمسيحيون وعلى رأسهم البطريرك الحويك كانوا يحلمون عن حق بالمواطنة المتساوية في بلادهم مع المسلمين، وبالمشاركة معهم في حكم البلاد مشاركة حقيقية كاملة بحيث تصبح التجربة اللبنانية هذه مثلاً ومثالاً للعلاقات السياسية المنشودة في أي بلد آخر يكون سكانه مسلمين ومسيحيين ليشاركوا معًا وعلى قدم المساواة في صنع المصير.

ولقد ثبت هذا المنحى من الفكر والعمل عبر تخطي لبنان مرحلة الانتداب الفرنسي وبتوافق المسلمين والمسيحيين فيه سنة 1943 حيث تكرّس استقلال لبنان عن الشرق السوري وعن الانتداب الفرنسي على حد سواء. وقد شارك فعلاً في هذا الموقف زعماء شيعة عملوا يدًا بيد مع إخوانهم اللبنانيين لأجل إرساء حكم في لبنان يكون للبنانيين وحدهم وللبنانيين جميعًا من دون استثناء. فبرز منهم رؤساء كبار من مثل الرئيس احمد الاسعد وابنه الرئيس كامل الاسعد والرئيس صبري حماده والرئيس عادل عسيران؛ وكانوا جميعًا في طليعة العاملين من أجل استقلال البلاد وتكريس حكمها للبنانيين من دون سواهم. وللدلالة على الموقف الايجابي للمسيحيين من هذا الاستقلال يجدر الذكر بأن الكنيسة المارونية على يد البطريرك انطون عريضة والمطران اغناطيوس مبارك رئيس أساقفة بيروت قد اتخذت الموقف الاستقلالي الكامل وسعت مع الساعين جميعًا لنيله ووضع حد للانتداب الفرنسي بالرغم من صداقة لهم مع الفرنسيين تضرب جذورها في عمق التاريخ.

وفي هذه المناسبة جرى توافق شفهي بين الشيخ بشارة الخوري رئيس الجمهورية آنذاك ورئيس الحكومة رياض الصلح على الحكم في لبنان ووضعا الميثاق الوطني غير المكتوب معلنين بموجبه أن لبنان دولة مستقلة لا تتطلع لا إلى الشرق ولا إلى الغرب بل إلى المشاركة في حكم البلاد، عبر تدابير توزّع السلطات بين الطوائف وذلك إلى أن يصبح بالإمكان تخطي هذا المنحى الخاص والوصول بالبلاد إلى الدولة المدنية بكامل وجوهها. على أنّ هذا الميثاق الذي وضع اسس الاستقلال لم يكن صنيعة فرديّة بل كان عمل جميع اللبنانيين سنّة وشيعة ودروزًا ومسيحيين. ولم يكن الشيعة بعيدين إطلاقًا عن هذه المواقف وهذه المساعي. طبعًا حصل اهتزاز للصيغة وطُرحت أسئلة حول النظام اللبناني في فترة ما بعد الاستقلال. ففي العام 1958 حدث خروج عن روح الميثاق عندما طالب بعض المسلمين بالوحدة مع سوريا ومصر وانحاز بعض المسيحيين لمشروع ايزنهاور الرابط بين اميركا والعراق. إلاّ أن اللبنانيين عادوا وتنبهوا إلى ضرورة احترام ميثاقهم الوطني نصًّا وروحًا فعاد السلم إلى البلاد وانطلق الرئيس فؤاد شهاب في سياسة اجتماعية وتنموية مقوّيًا حضور الدولة وخدماتها في المناطق النائية من البلاد، وبخاصة في الجنوب وفي سهل البقاع. لكن الأمور تعثرت من جديد بعد العام 1975 عندما سمح لبنان بإلحاح من القادة العرب وبعض من اخواننا المسلمين واليساريّين والقوميّين بأن يشرّع العمل الفدائي الفلسطيني انطلاقًا من أرضه. فتحمّس له من تحمّس وانقسم الناس من جديد بين مشرّق ومغرّب، إلى أن عدنا عبر اتفاق الطائف إلى تثبيت العيش معًا وتطوير نظام الحكم في البلاد بحيث يرضى به مجمل اللبنانيين. وهكذا تكرّس في الطائف انتماء لبنان الواضح إلى العالم العربي، كما تكرّس استقلاله بحدوده الحاضرة من دون أي نقصان، وأعلن أيضًا أن لبنان هو بلد نهائي لجميع أبنائه وأن لا تجزئة له ولا تقسيم. وكان للشيعة في ذلك مواقف وطنية واضحة وبخاصة من قِبل الرئيس حسين الحسيني عرّاب الطائف، وقد استلهم من أجله روح الامام موسى الصدر الذي كانت له من المسيحيين في لبنان مواقف أخوية مشرّفة، وبخاصة حين رفض أن يُمسّ مسيحيٌّ في لبنان على يد شيعيّ أو أي إنسان آخر. وسار على خطاه في ما بعد سماحة الامام محمد مهدي شمس الدين الذي دعا الشيعة الى الانخراط في مشروع الدولة وأوصاهم بأن يحافظوا على التوازن اللبناني وعلى كرامة الجميع وحقوق الجميع بالأمن والاستقرار.

وها هو دولة الرئيس نبيه بري، رئيس المجلس النيابي اللبناني، يعمل لتعزيز هذا المنحى بما عنده من نظرات صائبة لأمور العرب والعروبة ولوحدة المسلمين جميعًا ووحدة اللبنانيين حول وطنهم الواحد ومصيرهم المشترك. ونحن جميعًا نعوّل على حكمته ليبقى صمّام أمان للحفاظ على الوحدة الوطنيّة وعلى بقاء الدولة الحاضنة لكل أطياف لبنان تحت سقفها الواحد وضمن مصير مشترك يضمن لهم مكاسب الماضي ويرعى من أجلهم مستقبلاً أشدّ صلابةً وأكثر انفتاحًا نحو الأفضل.

حزب الله والمسؤوليّة المشتركة في إنقاذ لبنان والحفاظ عليه نحن نقول بكلّ صدق إن الاخوان في حزب الله هم لبنانيون أعزّاء ومناضلون شرفاء، ونكبر كل الاكبار تضحياتهم وأعمالهم البطوليّة في مقاومة العدو الاسرائيلي الذي احتلّ أرضنا وما يزال يهدّد أمننا وحياتنا منذ إنشاء دولته الغاصبة في فلسطين. والخلاف الواقع بينهم وبين لبنانيين آخرين يجب أن يبقى خلاف إخوة وألاّ يتعدى سقف الأخوة لا في احتدامه ولا في السعي إلى تسويته.

لقد نشأت مقاومة حزب الله ردًا على اعتداءات إسرائيل الغاشمة والمتكرّرة على أرضنا، وهي التي هدمت البيوت فيها وجرفت المزروعات بدباباتها وبخاصة في منطقة الجنوب. وقد استمرّت هذه الاعتداءات منذ ما قبل نكسة العام 1967 وأثناءها وفي ما بعدها حتى وصل احتلال جيشها إلى قلب العاصمة بيروت في العام 1982. لأجل ذلك تأجّجت عند المظلومين والمقهورين من شعبنا مشاعر الغضب والسخط الكبيرين. والأصعب هو أنّ الدولة في تلك الفترة كانت غير قادرة على رد الاعتداء وغير مجهّزة لدحر هذا الاحتلال الغاصب. أمّا القوّات الدولية المتمركزة على الحدود فكان دورها محددًا ضمن نطاق المحافظة على السلام وليس لفرضه على الجميع بصورة من الصور.

هذه المقاومة بالذات توصلت إلى دحر العدو الاسرائيلي وإلى إخراجه من أرض الجنوب وإلى رفع الظلم وأخطار التعذيب والموت عن سكان المنطقة بأسرها. وكان هذا النصر الكبير هدية من المقاومة قُدّمت إلى كلّ لبنان. ولنقرّ هنا بأنّ الدولة التي استقلّت منذ العام 1943، لم تعمل على السير في ركب الدول القادرة، لا أمنيًّا ولا حتى اجتماعيًّا. فكان الرئيس فؤاد شهاب أوّل من عمل على توجيه هذه الدولة نحو السياسة التطويرية للمناطق وعلى إقامة العدالة الاجتماعية الحاضنة لكل صفوف الشعب. وهو الذي قال في خطابه الأوّل بعد تسلّمه مقاليد الحكم في العام 1958: “لقد حصلنا إلى الآن على استقلال الدولة – وبقي علينا أن نبني دولة الاستقلال”.

لقد شكا حزب الله بحق ضعف هذه الدولة وبنى على هذا الواقع قوّة مقاومته. واللبنانيون بأجمعهم أيضًا كانوا يشكون ضعف الدولة. وإن لم يكن الجيش اللبناني مجهّزًا في الأساس لمواجهة اسرائيل برًّا وبحرًا وجوًّا فلنعترف بأنّ هذا الوضع لا تعود مسؤوليّته إلى الجيش الذي قام ويقوم ببطولات كبرى منذ مرحلة قيام دولة إسرائيل، بل هذه المسؤوليّة تقع على من رسم ويرسم للجيش دوره وحدوده. ونحمد الله أنّه في الزمن الحاضر بات قويًّا ويستطيع أن يصبح أقوى عندما تقوى الدولة التي ترعاه وعندما نعمل معًا كلّنا على تقويته.

ونحن أيضًا مع حزب الله نشكو بعض أوجه النظام اللبناني وبخاصة تصرّف القيّمين عليه. فنظامنا الاقتصادي الحر الذي حقّق ازدهارًا وتقدّمًا للبنان في أواسط القرن العشرين لم يتطور، على ما سبق وأكّدناه، ليصبح مواكبًا للديموقراطية الاجتماعية تلك التي تؤمّن للطبقات الفقيرة إمكانيّة الرقيّ وتأمين العلم لأولادها والسكن لعيالها والعمل لشبابها والطبابة لمرضاها، بل تمسّك المسؤولون عن حكم البلاد بالاقتصاد الحرّ المتوحّش والمتفلّت من التضامن الاجتماعي الحقّ، ولم يحسنوا رسم سياسة ضريبية مناسبة تؤمّن كل هذه الحاجات على صورة ما تقوم به دول متوسّطة الغنى كلبنان أو حتى الدّول الأقلّ منه غنى وقدرة. وما يدمي القلب هو أن غالبيّة الطبقة الحاكمة لم تحسن في المرحلة الراهنة قيادة لبنان بل أغرقته بالديون عن طريق المسّ بمال الشعب والهدر المتصاعد لخيراته حتى توصّلت إلى هدر أموال المودعين في المصارف وراحت تنفق بغير حساب، ممتنعة حتى عن إقامة المحاسبة العامة في ميزانيّة الدولة وذلك على أكثر من عشر سنوات متلاحقة.

أمام كلّ هذه المآسي التي أوصلت لبنان إلى الحضيض وهدّدت كيانه في الصميم، راحت بلادنا تموت جريحة على مفترق طرق العالم ونحن مدعوون لإنقاذها معًا ولإبعاد الأخطار القاتلة عنها، كما نحن مدعوّون لإنقاذ دولتها لأن الدولة وحدها قادرة على أن ترعى الكيان وتصون وحدة المواطنين. إنّ حزب الله قد أخذ على نفسه حماية لبنان من الغدر الإسرائيلي وتحرير أراضيه مهما كلّف ذلك من تضحيات. وإذ نفتخر بما قام به المجاهدون الأبطال في الجنوب من إنجازات، نتمنى على حزبهم إعطاء المقاومة أوَّلاً اسم المقاومة اللبنانية. فلماذا تكون اسلاميّة صرف فيما المطلوب هو تحرير لبنان، على يد جميع اللبنانيين؟ وألاّ تنفرد قوّة واحدة في إنقاذ البلاد، فيعمل حزب الله من جانب وسائر الأحزاب كل منها من جوانب اخرى وذلك في الوقت الذي نحن بأمسّ الحاجة إلى تضافر كلّ القوى وليس إلى تصارعها لوضع لبنان من جديد على سكّة الحياة والازدهار.

إن المقاومة هي عمل مشروع في كل وطن يتعرّض للاحتلال. لكن المقاومة هي عمل مشروع ومطلوب لإزالة الاحتلال واستعادة كرامة الوطن والمواطنين. وعندما تتحرّر الأرض تنتفي الحاجة الى المقاومة، وإذا صار الوطن بفضل المقاومة قادرًا على التفاوض من موقع قوّة فهو يلجأ للتفاوض بمساعدة الأمم المتّحدة والدول الصديقة. فالمقاومة ليست غاية بحد ذاتها وليست عملاً أبديًّا بل هي تلبية ظرفيّة لحاجة ظرفيّة من أجل إحقاق الحق للوطن والمواطنين. لذلك، ندعو بإلحاح إلى التفاهم بين اللبنانيين على توحيد القوى في وطنهم، فلا وحدة مع سياسات مختلفة، ولا ازدواجيّة بين الجيش والمقاومة، وهذا يتمّ بواسطة الحوار الرامي إلى وضع استراتيجية دفاعية تضمن النجاح أولاً في الدفاع عن الوطن كما تضمن بخاصة وحدة البلاد ووحدة المواطنين. لأجل ذلك ندعو حزب الله إلى أن يساهم في تحقيق هذه الأهداف إسهامًا مؤمنًا وفعّالاً. فالتفرّد يولّد تفرّدات ويهدّد وحدة الوطن ومصيره ورسالته بين الامم. إنّ القوّة التي يتمتع بها حزب الله يجب أن تكون قوّة من أجل كلّ لبنان وجميع اللبنانيين. وبهذا يسقط كل كلام عن تهديد لبنان بتغيير هويّته جاعلاً منه مشروع حرب مستمرّا، وبفقدانه رسالته الأساسية القائمة على الحوار وعلى التقارب بين الديانات وأهلها، فتثبت هويّة لبنان عبر جمع القوى كلّها فيه ومن أجل مشروع واحد ومستقبل جامع لأهله من دون استثناء.

أمّا التفرّد في الحكم والتصرّف الفئوي في مصير لبنان فهما يسهمان في تشتت أهله وفي إخفاقه كوطن ودولة؛ فيما جمع القوى من أجل لبنان الواحد يبقى وحده السبيل إلى القوّة والاستمرار في الرسالة الناجحة. وليتذكر الجميع أن كلّ الأعمال التي نجحت تاريخيًّا في لبنان كانت على يد الجماعة كلّها. وان الأعمال التي قامت بها جماعات منفردة لم تكن لمصلحة الجماعة الوطنية الكبرى عن حقّ وحقيق.

ولئن شكا بعضكم أيّها الأحباء عدم المشاركة في إقامة دولة لبنان الكبير، وإذا صح الأمر بهذا المعنى، فإنّ تغييب سائر اللبنانيين عن المشاركة اليوم هو أيضًا عمل يشكو منه المغيّبون عنه وهكذا دواليك.

وإذ نحن على مشارف قرن جديد في حياة لبنان والمنطقة، وفيما المصائر تتقرَّر على أرض الواقع سواء أكان في الشرق الأوسط أم في سائر المجموعات والقارات شرقًا وغربًا، يهيب بنا أن يكون مصير بلادنا وأن يبقى من صنع أيدينا وألاّ يُفرض علينا لباس غير لباسنا وموقع غير الموقع الذي وضعتنا فيه العناية الإلهية، لنكون في محيطنا حمَلة رسالة تعارف متبادل وتفاعل حضارات وسلام مبني على أساس الحق والعدل وليس على أيّ أساس سواه. كما نحن مدعوّون إلى تقييم حياتنا الوطنية لنحافظ فيها على الثوابت التي تصنع هويّتنا وتعمل على تصويب ما يجب تصويبه بالتوافق الإيجابي المحبّ وذلك من أجل ثبات الوطن وهناء شعبه. وإنّنا معًا لقادرون بعونه تعالى على أن نعمّر الأرض التي هي أرضنا فتغمرنا رحمته ونتلمّس معًا عفوه ورضاه.

النهار

المقال السابق
عودة التواصل "الحواري" بين "حزب الله" و"التيار الوطني"

الرصد

مقالات ذات صلة

"المرأة الغامضة" وراء الشركة المرخصة لأجهزة "البيجر" المتفجرة

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية