شائكةُ لفظة “المثقّف” لا بل تترك وراءها آلاف المدوّنات والكتب والأبحاث من دون أن تروي العقول الباحثة عن إطار لها، وحين تلصق الكلمة بهويّة جغرافيّة أو مناطقيّة أو طائفيّة تتعقّد الأمور وتتجاوز اللفظة ككلّ حالها الاشكاليّة لغويًّا، لنصير أمام جملة اشكاليّات تخضع لحال البلد أو المنطقة أو تموضع الطائفة، أمّا المثقّف اللبناني فله لعبته الخاصّة، وإطاره الخاص، وعلى مرّ التاريخ، وفي عدد من أمّهات الكتب التاريخيّة من “تاريخ لبنان الحديث” لفوّاز طرابلسي و”بيت بمنازل كثيرة” لكمال صليبي، وصولاً إلى “النزاع على جبل لبنان” لمكرم رباح وكذلك الكتب الفكريّة والبحثيّة ك”أوهام النخبة” أو نقد المثقف” لعلي حرب و”الواقع وشعريّته في شعر محمّد علي شمس الدين” لداوود مهنّا ، كان المثقّف اللبناني والعربي حاضرًا بكل رتبه من دون الإفصاح المباشر عن شكله أو نوعه، فما هو دور المثقف اللبناني؟ وأينه من تصنيفات علم الاجتماع السياسي الكلاسيكيّة؟ وكيف حدّد المتلقي حالته ما بين النقد والنقض؟
المثقّف اللبناني: 17 تشرين التي عرّت ذواته
في كتابه “أوهام النخبة أو نقد المثقف” (الصادر بطبعتيه عن المركز الثقافي العربي) عمل علي حرب على تعرية المفاهيم ونقد بعضها لا بل تجاوز الفعل الكتابي الى حالة النقض خصوصًا حين حصر الحديث حول المثقّف التقني الذي يعدّ وفقًا لأسس علم الاجتماع السياسي مثقفًا منشغلا في مهنته والمكان الذي يثبت أنّه فرد من القوى العاملة، وكان على علي حرب ألّا يقدّم أيّ حل أو حلول إزاء التعاطي مع هذه المفاهيم أو دور المثقّفين في مجتمعاتهم وانسلاخهم الضروري عن أقرانهم المفكرين، وهنا يأتي الرّبط بالمشهد اللبناني لا سيّما 17 تشرين المختلف عليه الآن: هل هي ثورة أو حراك اجتماعي أو “فورة ” أم مؤامرة نتيجة حصار امبريالي، كما يدّعي ديوان نظريّة المؤامرة الكونيّة؟
والحقّ أن هذا الحدث التشريني قد قسّم المثقّف اللبناني إلى ثلاث فئات :
الأولى: المثقّف المتمكّن، وهو المثقّف القادر على احتواء الشرارات العاطفيّة في الشارع والتماهي مع ايقاع الغضب القائم في الميادين ، ممّا يجعله وفقًا لغوستاف لوبون يذوب في البقعة الجماعيّة وقد تراه يشتم حين يعلو نشيد “الهيلا هيلا هيلا هيلا هو” الموجّه لرئيس التيّار الوطني الحرّ جبران باسيل، أو الهتافات المعنونة بشيل إيدك عن بيروت الموجهة لأمين عام حزب الله حسن نصرالله ، يصبح المثقّف المتمكن لاواعيًا حتّى يمسك بالقلم ويعبّر عمّا رآه أو يرأه فيكتبه بنبرة أكاديميّة أو صحفيّة تجعله محاطًا بهالة جماهيريّة وهنا نعود لعلم الاجتماع ومفهوم الملاحظة…
الثانية: المثقّف الرمادي: وهي الفئة الأخطر والتي تعدّ من مسببي إجهاض 17 تشرين إلى جانب منهجيّة بعض الأحزاب اللبنانيّة الرئيسية، والمثقّف الرمادي يقال عنه في العاميّة”بدو يمسك العصا بالنص” ومنهم أحد الجامعيين الذي وصف ديما صادق بالخائنة ونزل ليتظاهر في ساحات “الحريّة” أو أحد الأساتذة الذي قاطع الانتخابات لعدم نزاهتها ونزاهة المنظومة لكنّه يرفض المشاركة في تظاهرات تطالب بنزع سلاح الحزب أو بحصر السلاح بيد الدولة… هذه الرماديّة تتنافى مع ما نادى به سارتر بحقّ الاختيار وتجعلنا نفهم لماذا نحن الآن هنا ولم نكن هناك حين سقوط الرموز الاوتوقراطيّة.
الثالثة : المثقف التابع، أو شاعر البلاط الذي يكتب الدروس لجماهير الأحزاب، ورأيناهم في 17 تشرين ونراهم اليوم في مشهد موازٍ للمثقفين المستقلين بخطابات اما تنبش في كبد التاريخ أو تأوّل اللحظة الرّاهنة…
فئات ثلاث للمثقف الذي يختلف عن المفكّر أنّه تطبيقيّ ومطبّق لتنظيرات المفكّر وما عرضه حرب في كتابه دعوة لتفكيك المفهوم لمعرفة أصل الخلل الجماعي وما يفرزه من خيارات سياسيّة ساديّة.
موقع المثقّف اللبناني لدى الجماعة
لا تزال الجماعة لا سيّما اللبنانيّة ترفض التعمق بمفهوم المثقّف ودور مثقّفها، لهذا لا زلنا نسمع عبارات “بيلبس عوينات شكلو مثقّف” او “بيحمل كتاب، شكلو مثقّف”، ولعلّ الفرزدق حدّد معنى كلمة مثقّف حين قال”علينا أن نقول وعليكم أن تتقوّلوا” والحقّ أن هذا التحديد الميكانيكي المبني على تصنيف طبقي بلغة الماركسيين، يحيلنا إلى الجماعة نفسها، التي لم تعرف حتّى الآن من هو مثقّفها رغم دخول لبنان في معترك الحرب الأهليّة والحروب الاسرائيليّة الست( من 1978 حتّى 2006) وصولاً الى كل التحركات المطلبيّة وكارثة تفجير مرفأ بيروت عام 2020…والأمر يعود لسببين: عدم التكيف لدى المثقفين مع الحقائق والعمل على ابداعها وفقًا لاعتقاداتهم أو صمتهم نتيجة احباط الجماعة، وبالتالي فإن المثقّف اللبناني يفقد موقعه وقد يفقد ثقته اذا ما استمرّ في علاقته العكسيّة مع الشعب…
ما بين النقد والنقض
في دراسته “الواقع وشعريّته في شعر محمّد علي شمس الدين ” للدكتور داوود مهنّا، اضاءة على المنحى السياسي الواقعي في شعر الراحل شمس الدين، المغمّس بالقضايا منها الفلسطينيّة واشارة اكاديميّة الى التناص القرآني والديني ازاء الربط ما بين حروب الجنوبيّين وواقعة كربلاء، وقد كشف مهنّا في هذا الفصل تحديدًا ملمح من ملامح المثقّف العقائدي ، ممّا يضعنا أمام اعتقادين إمّا أننّا أمام صورة لمثقّف تأخذه العاطفة ويصبح العقل أداة لهذا الأخذ، أداة ناسخة للعواطف والمشاعر، وإمّا تعيدنا لمفهوم الالتزام الأدبي التي نقضته نظريّة الفن للفن ونقضت (دمّرت) معه مثقّفها، سواء كان شاعرًا أم معلّقًا سياسيًّا.
وفي دراسة حديثة عنوانها “النزاع على جبل لبنان” للدكتور مكرم رباح، تعرية تاريخية مفصّلة لدور المثقف في النزاع ما بين الموارنة والدروز ، من عصبيّة جوسلين الخويري (قياديّة ومقاتلة قوّاتيّة) وربط النسويّة بالحرب والبقاء، وطليع حمدان وشعريّته الموظفة درزيًّا للنيل من عزيمة الموارنة بعد حروب متقطعة…
كلّ هذه المشهديات تساهم في نقض المثقف اللبناني قبل نقده، كونه يخرج عن علاقته بالجماعة ككلّ وبحثه عن رضا جماعته رغبة منه ليكون رمزها بشكل لاوا عٍ.
يبقى المثقف اللبناني متحرّكًا ما بين لغمين ، التحوّل أو السُبات، ووحدها الحركات البشريّة التي يرتوي منها التاريخ هي التي تحدّد وضعه هل هو في مكعّب النقد أو في حقل النقض أو التلف الأبديّ، واذا كان ابن خلدون قد اعتبر في مطلع مقدّمته أن الناقد هو قسطاس بصيرته (أي ميزان بصيرته) فالسؤال الذي يشغل محركّات البحث، متى سيجد المثقف اللبناني بصيرة واحدة ويتقن وزنها بين دفّتي العقل والعاطفة؟
نبيل مملوك- نيوزاليست