راشد عيسى
يباغتنا المحلل السياسي على شاشة التلفزيون الأكثر تغطية للحرب الإسرائيلية الدموية على غزة ولبنان بالقول: «ما أضيق العيش لولا فسحة ال أمل».
لا أصدق ما أسمع، لا لأنني لست مؤمناً بالأمل، وهذه حكاية أخرى، ولا لأنني على عداء، لا سمح الله، مع مبدع القصيدة الطغرائي الأصفهاني، كل ما هنالك أن التحليل السياسي، المرفق غالباً بصفات أو ألقاب من قبيل إستراتيجي، وخبير وعسكري، لا يتحمّل كلاماً إنشائياً أو أدبياً، مهما كان حلو المذاق. التحليل السياسي عليه أن يقول بيانات، استنتاجات، إحصاءات، خرائط، مواقف دولية مستندة إلى معلومات، سيناريوهات محتملة، أما الحديث عن الأمل، فمكانه برامج المنوعات، و«بريد القراء» ، وبالطبع جلسات التحفيز وبرامج الصحة النفسية.
المشاهدون لا يذهبون إلى القناة التي تنوّرهم بالفعل، ولا ندري إن كانت هذه موجودة أصلاً، إنهم يذهبون إلى القناة التي تعزّز قناعات ما قبل الحرب
هذا هو شأن المحلل الذي ليس لديه ما يقول، تماماً كمذيع الفترة الجالس قبالته، إذ يتحوّل هذا إلى أقرب ما يكون إلى معلّق رياضي في مباراة كرة القدم، وعليه أن يملأ المشهد بأي كلام، ريثما تأتي اللحظة المناسبة للصراخ: تسجيل هدف، أو التحسّر على ضياع هدف.
تضرب الطائرات الإسرائيلية ضربتها، فيمتلئ المشهد بنار هائلة. يقول مذيع الفترة، في انتظار أن يسعفه صوتُ مراسل، أو خبرٌ عاجل من وكالات الأنباء: «يكثر الهرج هنا». ويستدرك، بعد صمت: «والمرج بطبيعة الحال»!
لم أصدق، مرة أخرى، أنني سمعت ذلك، فالعبارة كلّها عادة تقال للحديث عن فوضى، أو تساؤلات الحشد عما يجري من دون العثور على جواب ما، وما إضافة كلمة المرج إلى الهرج، إلا نوعاً من ذلك الكلام، الذي بلا هدف، ركام حروف موزون، لكن بلا معنى. تمنيت حقاً أن يسعفنا المذيع بالمعلومة التي أضافها هنا في الحديث عن المرج.
عندما تأتي مراسلة الميدان، نتنفس الصعداء، سنقول ها هنا سنعثر على المعنى الحقيقي للعمل الصحافي. نصغي بكل جوارحنا: «غارة ضربت هذا الموقع، شفنا الانفجار الكبير، وكأنه في شي انفجر، ربما ذخائر وغيرها، لا أعرف لستُ خبيرة عسكرية. ولكن المشهد كان واضحاً. بلشت تروق».
لم نعرف ما اسم الموقع، ولا المستهدف، أو عدد الضحايا، لا شهود عيان، لا مستشفيات، لا جيران يدلون بانطباعاتهم، فقط هذه المراسلة المشغولة بتبديد شمل المشاهدين الطامعين بأي معلومة، والتي تبذل جهداً في إثبات حذرها بأن لا تعطي أي معلومة تفيد العدو.
نستنجد بمواقع التواصل الاجتماعي، فنفاجأ بالمحلل السياسي الأشهر الآن خارج الاستديو، في مقطع فريد من نوعه. يبدو أن الرجل أراد أن يستثمر شهرته في التحليل السياسي بشيء ذي فائدة. يطلّ الآن من محلّ أطقم (صاحب المحل سبق أن أرسل له مجموعة من الأطقم إلى فندقه، بعد أن لاحظ من ظهوره التلفزيوني المتكرر أنها تلزمه).
المحلل الآن ترك شؤون الحرب المدوّخة، وراح يتحدث، بلغة ومصطلحات التحليل السياسي نفسها، لكن عن أطقم صاحبه، يتحدث عن «تفصيل البدلات بمنتهى الأناقة والجمال، الذي يضاهي دور الأزياء المشهورة عالمياً»، ولا يفوته التحدث عن «مالكها الذي يتمتّع بكاريزما»، ولا ينسى «البعد القيمي والأخلاقي»، مستنتجاً عبارة أرادها أقرب إلى صياغات الفلسفة: «ليس المهم أن يبعث البدلات (الأطقم).. تخيّل أن صاحب المحل عنده آلاف الزبائن، يعرف مزاج وميول ك ل شخص، يعرف قياسه وميوله ورقبته، فهذا في البعد الفلسفي له دلالته، أنه محترف، ابن مهنة، وليس لديه جشع، بل تقديم خدمة متميزة». وختم المحلل السياسي بالدعاء لصاحب المحل، في الدنيا والآخرة.
علام نتفرج ما الذي نأخذه من التحليل السياسي، هل حدث حقاً أن قدّمَ لنا محللٌ سياسي كشفاً لا نعرفه، هل حدث أن نوّرَنا المحلل بالفعل؟
هنا صدقت أذني التي سمعتْه مرة يحلّل فيقول: «نتنياهو يكذب، ويعلم أنه يكذب، ويعلم أنني أعلم أنه يكذب»! أدهشتني عبارة «نتنياهو يعلم أنني أعلم». قلت لنفسي اُنظر إلى أين يأخذ الغرور المرء، إلى أين تأخذه الرغبة بالتفلسف! علام نتفرج ما الذي نأخذه من التحليل السياسي، هل حدث حقاً أن قدّمَ لنا محللٌ سياسي كشفاً لا نعرفه، هل حدث أن نوّرَنا المحلل بالفعل؟
على أي حال، بات واضحاً أن المشاهدين أيضاً لا يذهبون إلى القناة التي تنوّرهم بالفعل، ولا ندري إن كانت هذه موجودة أصلاً، إنهم يذهبون إلى القناة التي تعزّز قناعات ما قبل الحرب. حاضنة الحزب لن يقبلوا أي بيان أو معلومة إلا عبر قناتهم، وأبناء الحركة كذلك، أما الضحايا فهم مضطرون للذهاب إلى قنوات العدو، التي يستمعون عبرها إلى التحذيرات بإخلاء هذا المربع أو ذاك، ثم لا ينجون، لأن العدو غدّار بما فيه الكفاية، وكل ما فعله عبر سنة من الحرب أن كان يطالب السكان، بل يجبرهم على التوجه إلى ما يسميها أمكنة آمنة، ثم يقصفها.
الضحايا الحقيقيون للحرب لا يستمعون إلى نشرات الأخبار، ولا إلى محلليها.
القدس العربي