وسام سعادة
كمستحمّ ضائع أبدَ الدهر لا يعرف كيف «يقسط» الماء ويعدلها، حيناً تنسكب عليه حارقة كلظى الحمم، وحيناً تقرسه بصقيعها الغارز في العروق، هكذا لبنان، مذ نشأ ككيان سياسيّ. بكل مفارقات النشأة يَحمُلُها، وينوءُ بثقلها، لا تتجاوزه ولا يتجاوزها. أما عندما يُفْلح البلد في الاهتداء إلى مياه لا حارقة ولا جليدية، فتجده ينْفُر من الفاتر ويجد فيه ما ينتقص من عنفوانه. نشأ هذا الكيان بالتخريط الكولونيالي (تخريط: من خرائط). وهذه لا يتفرّد بها نموذج لبنان قطّ، بل يتشاركها ومعظم الكيانات الدولتية العربية، بل مع معظم بلدان «العالم الثالث» سواء احتُسبت نامية أو غافية أو مُشرئبة.
فالمستعمر أوجد بالنتيجة كل هذه البلدان. كل هذه الأوطان. وأوجد بهذا المعنى الحركات الوطنية التحررية التي قامت تنادي بالتحرر منه والتي أورثها المساحة العائدة لها، والسكان الذي تشتمل عليهم هذه المساحة. هنا لبنان، هناك سوريا.
تنامى الاستعمار وانتشر كنظام عالمي لاقتطاع الأراضي في الأزمنة الحديثة، وفي عصر «الهيمنة الأوروبية» على بقية الحضارات. قسم من ال أراضي تُشرّع للنماذج الاستيطانية المقفلة، وقسم للمجتمعات الاستيطانية المختلطة ولو من موقع التراتبية مع أهالي الديار، وقسم اقتطع لتفريق «الأصليين» أو المُهجَّنين، قبله وبمعيته وبعده، بين دول – أمم مختلفة يفترض أن خطوطاً باتت ترسم الحدود ما بينها، وليس فقط التخوم.
ليس للأمة في معظم هذه البلدان من مضمون معاش على نطاق واسع، وليس للدولة في عدد كبير منها من إسهام يضيف الشيء الإيجابي الكثير على ما أوجدته أو استحدثته الإدارة الكولونيالية التي ورثتها هذه الدولة، بما تضمنته هذه من دواوين ومحاكم وثكنات وسجون ومعاهد ومتاحف. هذا إن لم تكن الدولة ما بعد الاستقلال ارتكاساً ونكوصاً بالنسبة إلى الإدارة الكولونيالية نفسها.
بنى المستعمر على التاريخ السابق عليه. وفي حال لبنان لم يوجده من عدم إنما أوجده بالتوسيع. وجاء التوسيع استجابة لقوم وقسراً على قوم آخر. لم يتأخر الوقت مع ذلك حتى دخلت معظم الأطياف في معترك التفاوض على سمات هذا الكيان وكيفية إدارة التعدد فيه.
بنى الفرنسيون على نموذج متصرفية جبل لبنان التي قامت بعد الاحتراب الدموي لعام 1860. وهو نموذج حدّ من «السيادة العثمانية» على هذا الربع، وكبّلها بنظام البروتوكول، بالتدويل المراقِب. وباشتراط أن يكون المتصرف نفسه عثمانياً ومسيحياً كاثوليكياً، إنما من غير كثالكة لبنان والعرب.
جرى الانتقال من نموذج «لبنان الصغير» قبل الحرب الكبرى، الداخل في الفلك العثماني إنما المصان وضعه الخاص بالتدويل الذي تتشفع من خلاله كل دولة كبرى في أوروبا لطائفة فيه، إلى نموذج «لبنان الكبير» بعد جلاء العثمانيين وبعثرة جيش فرنسا للمملكة العربية السورية الرومانسية، مباشرة بعد الخيبة التي مني بها على جبهة كيليكيا أمام المقاومة التركية.
«لبنان الكبير» بني، على خلاف لبنان الصغير، على الرهان على إمكانية أن يدار فيه البلد من قطب أساسي واحد، بخلاف وضعية التدويل المتعدد في حال «المتصرفية». أدى ذلك سريعاً إلى «انفكاك السحر» لدى الموارنة تحديداً. فهم أحبوا فرنسا عندما كانت من حزبهم، وكان من حزبها، في وضع لكل دولة أوروبية طائفتها المناصرة في جبل لبنان. أما وقد توسع الكيان، وانحصرت الإدارة بفرنسا وحدها، وليس بمجموعة من الدول كتللك الضامنة والراعية لبروتوكول المتصرفية، فقد انقبلت الحال. أيضاً، فرنسا أدركت قبل إدراك النخب المارونية، لا سيما الإكليروس للمسألة، بسنوات، أن النمو الديموغرافي هو لمصلحة المسلمين في لبنان الموسع.
في نهايات الحقبة العثمانية، كان القوم الأكثري بين مسيحيي بلاد الشام هم «الروم» وأكثرهم على الأرثوذكسية، وطائفة منهم انتقلت الى الكثلكة. لكن المتصرف لم يكن من بينهم، ولا كان من «الموارنة». هذه الطائفة السريانو-عربية لم يكتمل تكثلكها، وانخراطها في «النسق البابوي» إلا إبان عصر النهضة الإيطالي، ما مكن جزءا من رهبانها من أن يكونوا في روما نفسها، ليس فقط كمتأثرين بجديد ذلك العصر، بل ومساهمين فيه.
لم يعرف لا الموارنة ولا الدروز كيفية إدارة التعدد في جبل لبنان في القرن التاسع عشر، ولا عرف الموارنة من جهة، وروم البلاد الشامية من جهة أخرى كيف يبحثون عن التناغم بين مسيحيي المشرق في مرحلة أفول الإمبراطورية العثمانية وإقبال المشرط الاستعماري الأوروبي.
جعل فصل لبنان عن سوريا عام 1920 من أكثرية مسيحيي بلاد الشام أقلية في سوريا الفرنسية، بدولها الإدارية المحلية والطائفية المختلفة، في حين جعل من أقلية هؤلاء المسيحيين أكثرية ديموغرافية هشّة في لبنان الكبير. كان المسيحيون يشكلون ما بين ربع الى ثلث عدد السكان في بلاد الشام كافة عام 1920. نسبتهم من مواطني لبنان القاطنين فيه اليوم باتت عملياً بهذه الحدود!
هل حان وقت الاعتراف اليوم أنه، لا القسم من الموارنة الذي قال بلبنان الكبير كحل وطني للمسألة المارونية، ولا القسم منهم الذي قال بلبنان الصغير، الأقل مخاطرة، ولا الروم الأرثوذكس، وهم إلى يومنا أكثرية مسيحيي بلاد الشام، رغم النزيف الكبير، وقد تفرقوا بين الوطنيات والقوميات على أنواعها، قد غيبوا تماماً أي خوض صريح في مسألة الكيانات والمجتمعات والمشترك الاقليمي المجدي، «وما العمل بعد انفراط عقد السلطنة» انطلاقاً من صوغ مسألة جامعة لعموم كنائس المشرق العربي؟!
قد يقول قائل بهذا الصدد، أن في الفكرة السورية كما طرحها أنطون سعادة شيء من الإجابة المضمرة على هذه المسألة. في هذا بعض صحة، وبعض تضييع للمسألة. كونها تتعلق أساساً بكيفية مواجهة اختلاف المصلحة الفعلية في الأمد المنظور آنذاك، بين الموارنة وبين الروم، وليس في الأمد اللاحق، أي في عصرنا، حيث وصل تقلص الوجود المسيحي بعد مئة عام من مغادرة «دولة الخلافة» إلى أبعد حد. في الوقت نفسه، صار مسيحيو المشرق أقرب في «مشاعرهم العامة» من بعضهم البعض من أي وقت سابق.
لقد انطلقت الكيانية اللبنانية بحد ذاتها من اقتراح لحلّ مشكلة قسم من مسيحيي بلاد الشام (الموارنة) بصرف النظر عن مشكلة القسم الآخر، أكثريتهم (الروم). في الوقت نفسه، لم تكن الكيانية اللبنانية قادرة، ولأنها ذات سمة مسيحية، على صرف النظر عن مسيحيي سوريا والمنطقة. كما أن هجرة قسم من هؤلاء إلى لبنان ترفع من نسبة المسيحيين فيه. بل أن البرجوازية المدينية المسيحية اللبنانية، قدم قسم كبير من عائلاتها من دمشق وحلب. كذلك بالنسبة للقسم اليهودي المندثر من البرجوازية اللبنانية. لكن بالنتيجة، القسم الأكبر من الفلسطينيين والسوريين الذين لجأوا إلى لبنان كانوا من المسلمين السنة، في وقت زاد فيه معدل تزايد المسلمين سنة وشيعة، عن المسيحيين في لبنان القرن الماضي. وهذا معاكس للمعادلة التي سادت القرنين السابقين عليه حين تضاعف عدد الموارنة ولم يتزايد عدد الدروز.
أظهرت «الكيانية اللبنانية» رغم كل شطحاتها ونوباتها واقعية ومراساً إذا ما قورنت بالقومية العربية والسورية. في الوقت نفسه تتحمل فيه هذه الكيانية جزءاً من المسؤولية عن تضييع فرصة المقاربة الإجمالية لأوضاع مسيحيي المنطقة، ومن ثم تضييع ما امتلكته هذه الكتلة البشرية الدينية المتعددة من الموارد والطاقات، من الحضور والوزن والعدد. ما فات قد فات في الكثير من الأمور، إلا أنّ خمسة ملايين مسيحي ما زالوا يقطنون المشرق، ويوجد ضعفهم أو أكثر، في مصر. فكرة أن هؤلاء المسيحيين ليس لهم إلا اعتناق مشاريع الدول الوطنية القائمة، ليست كافية. وهذا يعني لبنان بالدرجة الأولى. لم يتمكن مسيحيّوه بالدرجة الأولى، من الوصول إلى درجة المياه المطلوبة. التي بدل أن تكون حارقة أو باردة جداً أو فاترة بشكل مزعج، عليها أن تجمع بين الدفء والانتعاش. وهكذا كان التنقل بين المكابرة على الحدود بين الكيانات فوق اللزوم وبين تبنيها كما لو أنها حدود لا تأويل فيها.
يدخل التخفيف قدر الإمكان من ارتدادات الوضع الخارجي على الداخل في أساس الجدوى من فكرة الدولة – الأمة. فهذه الأخيرة وقبل أي اعتبار آخر يفترض أنّها بمثابة العازل الصوتيّ للمجتمع الذي تطرح نفسها على أنها التجسيد المؤسسي لوحدته، عن التقلّبات الفجائية التي تنتاب ما يحيط حولها من دول وشعوب.
بيد أن لكل عازل حدود لقدرته على امتصاص الصوت. وهنا تبدأ المشكلة. إذا كان التخفيف قدر المستطاع من ارتدادات المحيط على الداخل يدخل في صلب مهام الدولة – الأمة، فإن الاقتراب من هذا الغرض يصير أصعب عندما يؤخذ العازل على أنه فاصل تام، أو هوة سحيقة، بين جواهر لا وصل بينها. الكيانية اللبنانية، إنْ اكتفي بها، ستمنع مسيحيي الشرق من طرح قضيتهم المشتركة، ومن البحث عن تفاهم حقيقي مع المسلمين. لا بأس إذن بتمرين مزدوج، التفكير في وضع بلاد المشرق كما لو أن حدودها السياسية الحالية ملغاة تماماً، والتفكير الموازي لذلك، كما لو أن حدودها الحالية قائمة بالفعل.
القدس العربي