في الجزء الأهم من خطابه في مناسبة مرور أسبوع على اغتيال القائد العسكري ل”المقاومة الإسلامية في لبنان” فؤاد شكر، بدا الأمين العام ل”حزب الله” حسن نصرالله كأنّه في الأيّام الأولى من حرب “طوفان الأقصى” وليس في شهرها العاشر، على الإطلاق.
راح بصوته الذي يعاني من تداعيات مزعجة لحنجرة تقاوم تداعيات التهاب الجيوب الأنفية، يخبرنا، وبإسهاب ما بعده إسهاب، عن مخاطر المشروع الصهيوني الذي تحمله حكومة بنيامين نتنياهو على فلسطين ولبنان وسوريا والأردن ومصر والمنطقة بأسرها، في حال أُلحقت الهزيمة بالمقاومة في غزة.
خطاب يمكن أن يكون، على الرغم من تعجرفه واستخفافه بفهم قادة الدول المعنية، صالحًا لتبرير الدخول في مسا ندة غزة، ولكنّه لا يمكن أن يكون منطقيًّا بعد أكثر من عشرة أشهر على بدء الحرب ودخول “جبهة المقاومة” على خط المؤازرة.
فجأة، لم تعد إسرائيل “أوهن من بيت العنكبوت”. فقط لم تعد بالقوة التي كانت عليها سابقًا. فجأة، لم تعد إسرائيل كائنًا مهزومًا أمام غزة وجبهات المقاومة، بل أصبحت تعاني من صعوبات. فجأة، لم تعد إسرائيل خائفة من تداعيات توسيع رقعة الإستهدافات في لبنان، فقط أصبحت تنتظر الإنتقام الآتي.
أكثر من عشرة أشهر، دمّرت غزة وقتلت عشرات الآلاف من سكانها، وحرقت الشريط الحدودي داخل لبنان وهجرت عشرات الآلاف من السكان وتسببت بمقتل كوكبة هائلة من الشباب، وقضت على ميناء الحديدة الإستراتيجي في اليمن، وأذلت إيران، إنتهت في خطاب نصرالله الى حصيلة مفادها أنّ مشروع نتنياهو وحكومته لا يزال في “عز شبابه”، و”في أوج قوته” و” في حمأة اندفاعه”.
كنّا نعتقد بأنّه تأسيسًا على الخطابات السابقة التي ألقاها نصرالله أنّ إسرائيل قد وصلت الى حافة الهاوية، وهي تتوسل “جبهة المقاومة” أن توقف الحرب، ولكن نصرالله جعل الجميع يكتشفون أن الحكومة الإسرائيلية تتعمّد توسيع العدوان في اتجاه الضاحية وفي اتجاه إيران، غير آبهة لا بالغضب ولا بالرد ولا بالإنتقام ولا بالحرب!
حتى في حديثه عن الرد الإنتقامي، بدا نصرالله الذي كان قبل أشهر قد رفع الصوت صاخبًا” يا هلا ومرحب بالحرب”، مصابًا برهاب الحرب. رهاب يجعله يرى في العمل نفسه “الشيء ونقيضه”، فإسرائيل التي تتعمّد توسيع العدوان لا تريد الحرب لأنها لا تملك قدراتها، وحزب الله الذي يصر على الإنتقام، يملك قدرات الحرب، ولكنه يريد ان يتحاشاها.
لم يكشف لنا نصرالله كيف يمكن لمن يوسّع العدوان أن يكون غير راغب بالحرب، في آن. لو قال لنا مثلًا إنّ إسرائيل تعرف أن حزبه لن يذهب الى عمل يتسبب بالحرب، مهما فعلت به، لكان تلاقى مع المنطق، ولكن أن يُبقي الأمر على هذا المستوى من التناقض، فهذا مؤشر كبير على مشكلة ضخمة في المنطق، أو على الأقل في احترام عقول السامعين!
نصرالله الذي سال لسانه، وهو يتحدث عن مخاطر المشروع الإسرائيلي، هو نفسه الذي يرفض أن تدخل إيران وسوريا في الحرب ضد إسرائيل. يبرر لهما عدم قدرتهما - أو بالأصح عدم رغبتهما بالدخول الى الحرب- ليضع العبء، كل العبء، على الدول الضعيفة والفقيرة والمنهارة، كما هي عليه حال لبنان.
ماذا يمكن أن يقول المرء عن هذه الجبهة التي تسمّي نفسها مقاومة، وهو يراها تدافع عن نأي دول تزعم أنها قوية وقادرة ومتمكنة، عن حرب يتم إقحام الضعفاء والمنهارين والمفقّرين فيها؟ كيف يمكن أن يكون من يطلق على نف سه صفة المقاوم مستخفًا الى هذا المستوى بشعبه ومصالح بلده وخائفًا الى هذا الحد على دولة يقبّل يد قائدها؟ وكيف يمكن أن يغضب هذا الذي يدعي مقاومة إن وصفه المراقبون، بعد كل ما يفعله ويقوله، بأنه تابع وملحق ومأمور؟
ما قاله نصرالله عن “الإنتقام ” لا معنى له، بمعايير القوة والحزم، لأنّه، في خلفية كلامه يتضح أنّ الإنتقام ليس خيارًا بل هو اضطرار، والعمل جار على تمريره بسلاسة. يُبدي سعادته بحالة الإنتظار التي تعيشها إسرائيل، ولكنه لم ينتبه إلى أنّه في الوقت نفسه ، ينخر الإنتظار إيران الذي تتهاوى عملتها وبورصتها، على الرغم من الدماء “المجددة” في سلطتها التنفيذية، كما يأكل ما تبقى من عافية في اقتصاد لبناني كان ينتظر “أوكسيجين” موسم الإصطياف.
أخطر ما في منطق نصرالله أنّ خسائر العدو هي مسألة خطرة وخسائر “محور الممانعة”، ولبنان في صلبه، هي مسألة تافهة.
ولم يتوقف نصرالله عند هذا الحد، بل أعلن على الملأ أنّ إسرائيل إنتهت من ضم مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. لم يقل لنا ماذا كان يفعل هو وحزبه وإيرانه وسوريا عندما حصل ذلك. لم يقل إن حزبه الذي أبقى سلاحه بحجة تحرير هذه البقعة الجغرافية، راح يفرط في استعماله لبسط سلطته في كل لبنان، وفي سوريا، وفي العراق، وفي اليمن، وفي البحرين، وفي الكويت، و ترك مزارع شبعا وتلال كفرشوبا لقدرهما الإسرائيلي. منذ العام 2000 حتى اليوم، مرت 24 سنة تحت مبرر تحرير ما تبقى من أراض لبنانية محتلة، فكانت الحصيلة الضم. وعلى الرغم من هذه النتيجة المأساوية، يطل علينا نصرالله، ليعلّم العرب والمسلمين …المقاومة!
نصرالله نفسه راح يسخر من خرق إسرائيل لأعنف جدار صوت فوق العاصمة اللبنانية، قبيل أن يلقي خطابه بلحظات، مع أنّ حزبه كان يخبرنا في وقت سابق عن “قوته الإستثنائية” التي تمنع المقاتلات الإسرائيلية من خرق الاجواء اللبنانية. تارة يتحدث عن قدرته على إسقاطه وتارة أخرى يتحفنا ببيانات عن إضطرار هذه الطائرات على مغادرة أجواء لبنان بعدما تصدى لها. هذه الطائرات التي راحت تستعرض نفسها وضوضاءها فوق العاصمة، على مرأى من العيون المندهشة.
وعلى الرغم من ذلك، يريد نصرالله ممّن لا يؤيّده أن يصمت. وكأنّ من لا يؤيّد ما يقوم به “حزب الله” ليس معنيًّا بوطنه وليس معنيًّا بمستقبل دولته، وليس معنيًّا بالأخطار والخسائر. هذا الذي يأمر اللبنانيّين بالصمت، هو نفسه الذي، لولا كلام المعارضين في إسرائيل، لما كانت لديه مادة تعينه على تضمين خطاباته أيّ مستند أو أي رواية. يتوهم البعض بأنّ نصرالله يعرف أسرار إسرائيل. في الواقع، يظهر أنّه لا يعرف إلّا ما يتحدث عنه هؤلاء الذين لا يجرؤ لا نتنياهو ولا بن غفير ولا سموتريتش، على أمرهم بالصمت!
أراد نصرالله أن يكون خطابه الذي ألقاه على إيقاع أعنف جدار للصوت فوق العاصمة اللبنانية، وفي ضوء سلسلة من النعاوي التي شملت مجموعة من مقاتلي “حزب الله” هادئًا ومنقيًّا، فإذا به يأتي مشوّشًا وغير عقلاني!
كان منطق نصرالله في هذا الخطاب عليلًا مثله مثل جيوبه الأنفيّة!