يعاني الجيش الإسرائيلي في غزة من الدوران في حلقة مفرغة: كلّما أنهى عملية عسكريّة في نقطة ساخنة ورفع علامة النصر، يجد نفسه مضطرًّا الى العودة إليها. هذا يصح على شمال القطاع الفلسطيني ووسطه وجنوبه.
ولا تقع التكلفة المرتفعة لهذه “الدوّامة الفارغة” على الفلسطينيّين فقط بل هي كذلك على وحدات الجيش الإسرائيلي، أيضًا!
ولا تقتصر معاناة هذا الجيش على النواحي المادية والبشرية بل تتعداها الى الناحية المعنويّة، وهي الأهم، لأنّها تُظهره عاجزًا عن تحقيق أيّ إنجاز حقيقي، إذ إنّ كل ما يقدّمه لشعبه، هو “انتصارات فانية” وبيانات سرعان ما تطويها حقائق جديدة! وقد بدأ صوت القيادة العسكرية في إسرائيل يرتفع ضد الحكومة، إذ تعتبر هذه القيادة أن السياسة التي تتبعها الحكومة، حيال غزة، هي السبب في هذا الدوران في الحلقة المفرغة، على اعتبار أنّ كلّ “انجاز” عسكري، إن لم تحصّنه استراتيجية سياسيّة سليمة، سرعان ما يتفتّت!
ولا يعود هذا الواقع الميداني في غزة، إذا ما تمّ التعمّق في قراءة الأسباب، إلى غياب الإستراتيجية السياسية بل إلى عدم واقعيّة الإستراتيجيّة “الراديكاليّة”، إذ إنّ سياسة بنيامين نتنياهو والقوى التي تقف على يمينه، تريد تحويل حرب “السيوف الحديديّة”، إلى عملية إبادة لمفهوم الكيان الفلسطيني، وجعل الفلسطينيّين مجرد مجموعات “غنمية” لا نا قة لها ولا جمل في السياسة والأمن والدفاع وتقرير المصير.
وهذا الهدف لا يشمل “حماس” وسائر التنظيمات الفلسطينية المسلحة الموجودة في غزة والضفة الغربية، فحسب بل يشمل، ومنذ اليوم الأول لوصول بنيامين نتنياهو الى رئاسة الحكومة، السلطة الفلسطينية نفسها، سواء كانت متعاونة مع الأمن الإسرائيلي أو رافضة لذلك.
ولا يخفي الكثير من الباحثين الإسرائيليّين أنّ رفض نتنياهو “الإيديولوجي” لوجود سلطة فلسطينية كتمهيد لإقامة دولة فلسطينية، هو الذي جعله يدعم تقوية “حماس” ويعمل على توفير موارد مادية لها وإعانتها على كسر شوكة السلطة الفلسطينية. ويتوقَع أن يكون دور نتنياهو هذا، أحد أبرز المسارات التي سوف يسلكها توزيع الإسرائيليّين للمسؤوليات عن هجوم السابع من أكتوبر على غلاف غزة، في جنوب الكيان العبري.
وخلفية نتنياهو “الإيديولوجية” هذه هي التي جعلته يتصدّى، منذ بدء التحضير لغزو غزة، لكل الدعوات الهادفة الى التفكير ب”اليوم التالي” للحرب، سواء كان مصدرها داخليًّا أو أميركيًّا أو أوروبيًّا، إذ إنّ هذا الآتي الى السلطة، على جناح تخوين رئيسه السابق الراحل أرييل شارون، يرفض البحث في نقل إدارة شؤون الفلسطينيّين الى أي طرف فلسطيني، بل يتطلع الى أن يتم التعامل مع هذا الشعب على أساس انتمائه ا لعرقي الى العرب وليس على أساس تمسكه بالهوية الوطنية، ولهذا يقترح أن يكون مستقبل غزة بيد قوات عربية- خليجية!
ولكنّ الرفض الجذري الذي تعرب عنه الدول العربية والخليجية المعنية باقتراح نتنياهو معطوف على شكوى القيادة العسكرية الإسرائيلية من مخاطر “الدوامة المفرغة”، تُظهران، بشكل لا لبس فيه، أنّ إسرائيل لا تملك وسائل تحقيق طموحات اليمين الإسرائيلي. طموحات، من شأنها، أن تأخذ الكيان العبري، إلى نهايات خطرة، لأنّها، في حال لم يتم التخلّي عنها، سوف تُدخل الكيان العبري في حرب لا تنتهي، وسط يأس الأصدقاء وانقلاب حال “أهل السلام” وأحكام العدالة الدوليّة!
من الواضح أنّ بنيامين نتنياهو وجميع من يقفون على يمينه مصابون ب”العمى العقائدي”، فالسطينيون، بغض النظر عن السرديّات الإسرائيلية للتاريخ، شعب عمّد هويته الوطنية بنضال طويل وشاق ومكلف، ولا يمكن التعاطي معه، كما لو كان مجرد قبائل عربية متناثرة. شعب له مؤيّدون، في الإقليم والعالم، وتدعمه تنظيمات تعتمد استراتيجية “حرب العصابات، أي استراتيجية لا تعترف بالهزيمة ولا بالخسائر البشرية والمادية!
إنّ مستقبل إسرائيل منوط بتحطيم عقيدة نتنياهو، لأنّ توازن القوى يكون بين الدول، وفي مواجهة شعوب لديها ما تخسره وتخاف عله!
خطي ئة إسرائيل التي تدفع ثمنها غاليًّا ومعها مجموعة من الدول التي سقطت بيد التنظيمات المسلّحة، أنّها رفضت وترفض التعاطي مع الفلسطينيّين، على أساس أنّهم شعب يستحق أن يقرر مصيره بنفسه ويُنشئ كيانًا قابلًا للحياة!