بدأ موسم الصيف في لبنان حاملًا الوعود بإنعاش الاقتصاد بفضل زيارات المغتربين اللبنانيّين الذين تتعاطى معهم وسائل الإعلام كما لو كانوا سوّاحًا، وانتشرت الأرقام التي تبشّر بموسم صيف حافل، إذ تم الإعلان عن شبه اكتمال حجوزات الطيران والفنادق والمطاعم، أضف إلى ذلك عودة المهرجانات في المناطق اللبنانيّة والحفلات التي يحييها فنّانون دوليّون. وترافقت هذه الأرقام مع ترويج لسردية عودة لبنان إلى “زمن السياحة الجميل” فيما لا تكف نشرات الأخبار عن تذكيرنا بشكل يومي بأن “صيفيّة لبنان ولعانة”.
تكاد هذه السردية أن ترسم صورة إيجابية ومتفائلة عن الوضع في لبنان، ويكاد المقيم فيه أن يتوهم للحظة أنّ الاقتصاد في حالة ازدهار، إذ لا بدّ من أن تكون هذه الفعاليات والحركة الليلية مؤشرًا على تحسّن الأوضاع الاقتصادية ومستوى حياة الأفراد، ودليلًا على عودة نوع من الاستقرار إلى البلد.
إلّا أنّه، في الواقع، لا مؤشرات إلى نهوض اقتصادي في لبنان، فيما يوميّات المقيمين فيه تزداد صعوبة ومشقّة يومًا بعد يوم مع غلاء الأسعار وتآكل القدرة الشرائية وغياب أدنى مقوّمات العيش الكريم. كيف يمكن لبلد يمرّ بأزمة اقتصادية غير مسبوقة أن يعود إلى زمن ازدهار – مُتخيّل – في ظلّ الإنهيار المتواصل لعملته وغياب أي بادرة إصلاحات جديّة؟
تُظهر مؤشرات الانهيار وحجوزات الاحتفالات أرقامًا متناقضة، ولكنّها، علميًّا، غير متنافية. وتجربة الترفيه والاحتفالات في لبنان هي وليدة هذه التناقضات. إن كنتَ من المحظوظين الذين بإمكانهم تحمّل نفقات ليلة سهر في بيروت، فاعلم أن الخروج ليلًا تجربة فريدة من نوعها وبعيدة كل البعد عن ليالي مواسم صيف “ما قبل الأزمة”.
حين تأخذك الرغبة والحماسة لقضاء سهرة في أحد ملاهي المدينة، تأكد من أنّك ستخوض تجربة سريالية تجمع ما بين البهجة والرفاهية والقلق والاستغراب في آن معا: تجهّز نفسك وتستقلّ سيارتك للتوجه إلى حفلة في المدينة. تقف عند إشارة السير الحمراء – إن كانت تعمل – فتغزوك مجموعة من الأطفال الذين يتسوّلون النقود أو الطعام أو يحاولون أن يبيعوك، ب”سعر الشفقة” الورود وعلب المحارم. تكاد عيناك لا ترى مظاهر البؤس المتوحش، إذ أصبح هؤلاء البؤساء جزءًا من المشهدية. تصل الى مكان السهرة وتمضي ليلة ممتعة وصاخبة. يحين وقت المغادرة، فتطلب الفاتورة، وهنا تبدأ مرحلة الحسابات المعقّدة – وبشكل خاص إذا قرّرت مجموعة الأصحاب أن تتقاسم الحساب – إذ تكون عمليّة الدفع حتمًا “كاش” وعابرة للعملات ووفقا لسعر صرف قد حدّده صاحب المطعم. تغادر مكان السهرة وتتوجه الى سيارتك في ظلمة الشوارع، آملا أن تكون قد أتممت عمليّة حساب تحويل العملات بشكل صحيح وتركت إكرامية ملائمة لموظفي المطعم. للحظة، قد يراودك هاجس بأن لا تجد سيارتك حيث ركنتها ولكنك تقرّر أن تتجاهل هذه الأفكار التطفليّة. تركب سيارتك، وتسرع بإقفال أبوابها وتقود متّجهًا إلى منزلك. ولا بد من أن تصادف، في طريق العودة، بعض مظاهر الأمن الذاتي في المدينة. قد تشعر بالانزعاج عند رؤية هذه المظاهر أو ربما… ببعض الطمأنينة. تتجاهل هذه الأفكار التطفلية مرّة أخرى وتكمل طريقك. تصل إلى منزلك. تترجل من سيارتك وتدخل المبنى بخطوات سريعة خوفًا ممّا تحمل الظلمة الحالكة من احتمالات. إن كنت محظوظًا، تصل قبل بدء برنامج تقنين المولّد الكهربائي، فتحظى بفرصة استعمال المصعد للوصول إلى شقتك. وقد تنعم أيضًا بوقت وجيز من النوم أثناء تشغيل مكيّف الهواء، إن كنت قد بذخت في دفع رسوم اشتراك المولّد المناسبة. في جميع الحالات، لن يدوم نعيم المكيّف طويلا، فلا بد من أن يبدأ برنامج التقنين في ساعات الصباح الباكر لإقلاق نومك. تستسلم للنوم بعد ليلة صاخبة وتستيقظ صباحًا متعرّقًا. تبدأ بتحضير قهوتك الصباحية وإذا بك تسمع صوت تشغيل المولّد. إنّه يوم جديد في بيروت.
لقد وصفنا لتوّنا واقع لبنان الجديد الذي تخبئه أرقام حجوزات الحفلات والمطاعم والفنادق وإعلانات المهرجانات اللّماعة.
الأزمة هي بتعريفها حالة استثنائية ومحدودة زمنيا. انما ما يمرّ به لبنان لم تعد معايير “الفترة العابرة” تنطبق عليه. إنّه واقع جديد.
إنّ عودة المهرجانات والفعاليات إلى لبنان في موسم الصيف هي فعلاً دليل استقرار، انما هو استقرار في القعر. فلا الانهيار يمنع الحفلات ولا يمكن للحفلات أن تخفي واقع الانهيار.