تابعونافلاش نيوز

الإصلاح ذلك السر المكشوف

الخميس، 17 أبريل 2025

الإصلاح ذلك السر المكشوف

داود الصايغ

ذات يوم في أواسط خمسينيات القرن الماضي، أيام ولاية الرئيس دوايت آيزنهاور، وفي أثناء جولةٍ له في إحدى الولايات، تقدمت منه بين الحشود امرأة رافعة بيدها برطماناً وقائلة له: “يا سيدي الرئيس إنه يحتوي على مربّى التفاح… من لبنان”. وتقول الرواية يومذاك إن الرئيس ابتسم شاكراً وأخذ الهدية معه.

تلك اللبنانية اقتحمت الحشود حاملة معها ذلك الكنز الصغير من لبنان، وهي تعرف أن في أميركا أنواعاً عديدة من التفاح. ولكن النكهة اللبنانية ليست موجودة في أي بلدٍ في العالم. والرئيس الأميركي عرف ذلك، فتلك الهدية الصغيرة هي على صورة الوطن الصغير.

بعدها بفترة قصيرة زمنياً، وفي تموز/يوليو ١٩٥٨ أمر الرئيس آيزنهاور بإنزال قوات مشاة البحرية الأميركية على شاطئ الأوزاعي في بيروت، بطلبٍ من الرئيس كميل شمعون، في أثناء ما سُميَ آنذاك الأحداث أو “الثورة” التي لم تستمر أكثر من ستة أشهر، وانتهت بانتخاب الرئيس فؤاد شهاب باتفاقٍ حصل بين الرئيس المصري جمال عبد الناصر وموفد آيزنهاور ريتشارد مورفي.

لم يكن برطمان المربّى هو السبب، بل ذلك السرّ الأميركي الذي ساد منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، وهو سرّ المصلحة الحيوية القائمة على منطقٍ أساسي لا يتغيّر هو منطق القوة.

على خطوات “المارينز” جاءت تلك الموفدة الحسناء مورغان أورتاغوس، لا سفيرة أو موفدة خاصة من الإدارة الأميركية، بل مفوضة سامية كاملة الصلاحيات. دونالد ترامب لم يفعل شيئاً سوى إكمال ذلك التقليد ولو بالأسلوب الفجّ المعروف، فهو جسّد بشكلٍ لا سابق له في تاريخ أميركا العقلية السائدة نفسها، وهي عقلية احترام القوي، من راعي البقر والشريف والملياردير التكساني إلى الشهير لأي سببٍ كان، حتى وإن كان زعيماً مافيوياً. وليس في أميركا من مكانٍ في السياسة المحلية لمن ليس قوياً. إذ ليس فيها مكانٌ للضعفاء. وما ينطبق على السياسة الداخلية فيها ينطبق على العلاقات الدولية. وهذا ما اعتمده ترامب في اختياره معاونيه، معتبراً أن القوة هي في القدرة على الظهور الإعلامي. ولكن السوابق تدلّ على أن منطق القوة كان هو السائد.

وقد روى الدكتور بطرس بطرس غالي الأمين العام السابق للأمم المتحدة بين ١٩٩٣ و١٩٩٦، والمتوفّى عام ٢٠١٦، حادثة تُعطي فكرة عن طريقة تعامل المسؤولين الأميركيين مع الآخرين. إذ بعدما أدى خلافه مع الإدارة الأميركية حتى قبل نشره التقرير الشهير عن مجزرة قانا الأولى عام ١٩٩٦ إلى استبعاد مشروع انتخابه لولاية جديدة في الأمانة العامة، وبعدما ألقى في الجميعة العمومية خطاباً وداعياً، استقبل في اليوم التالي في منزله وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت على مائدة العشاء، فقالت له: “إن خطابك البارحة كان قذراً”. قالت له هذا الكلام في منزله وفي حفل عشاء أقامه على شرفها.

ما قالته مورغان أورتاغوس في زيارتها الأولى في شباط الماضي من منبر الرئاسة في لبنان لا يختلف كثيراً في لهجته عمّا قالته مادلين أولبرايت لبطرس غالي. أميركا حضرت مراراً في لبنان بعد عام ١٩٥٨، وليس المجال كافياً هنا لاستعراض علاقة لبنان معها، بل للتساؤل، بعد التوصل إلى وقف النار في تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ إثر دور آموس هوكشتاين المعروف وتشجيع انتخاب الرئيس جوزف عون وتشكيل حكومة الرئيس نواف سلام، وفي ضوء حرب غزة الدامية ذيولها، وعلى أثر فرض واشنطن شروطها على إيران في التفاوض، ونتيجة التغييرات الإقلمية والدور السوري وصعود الديبلوماسية السعودية بهذا الشكل، للتساؤل: ماذا تريد أميركا من لبنان في هذه المرحلة التي يتحرك فيها التاريخ؟ الأجوبة عن هذه التساؤلات تكمن ربما في أسئلة:

  • هل أميركا باتت صاحبة الكلمة الأولى في الشأن اللبناني، بعدما انتهت ما سُميت “حرب الإسناد” إلى هزيمة “حزب الله” العسكرية في الأوصاف؟

  • هل الإصلاح الذي ما زال العالم يُطالبنا به منذ عام ٢٠١٩ أصبح ممكناً، وبخاصة بعدما أبدت الموفدة الأميركية اهتماماً خاصاً به يوازي الاهتمام بنزع سلاح “حزب الله”؟

  • كيف يمكن إزاحة ما سماه العالم كله، بمن فيه البابا فرنسيس، الطبقة السياسية التي فرضت نفسها حتى في تأليف الحكومة الحالية التي جاءت نتيجة محاصصة معروفة ولو بشخصياتٍ غير تقليدية؟

  • هل يمكن الإصلاح بالاستعانة بأشخاص جدد أصحاب كفاءات واستقامة، ولو بدون خبرة؟ وكيف يعود القضاء إلى العمل ويستمر التحقيق في انفجار المرفأ بدون عراقيل كما هو الحال منذ خمس سنوات؟

  • كيف تتم المحاسبة التي هي حجر الأساس في إصلاح الدولة والمؤسـسات والإدارات العامة، إذ إن التاريخ الحديث لم يدل حتى الآن على محاسبة أحد من السياسيين أو كبار المديرين أو المحسوبين على زعمائهم؟

  • مع الاعتراف بجهود الحكومة لوضع معايير في التعيينات، والعمل التشريعي لإصلاح القطاع المصرفي، هل يمكن وقف تبادل المسؤوليات والاتهامات عن الانهيار وفقدان الودائع بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف؟

    كلها أولويات قالها رئيس الجمهورية جوزف عون، وكلها تحتاج إلى وقت. لكن العنوان الأساسي لكل ما هو مطلوب داخلياً وخارجياً هو استعادة الثقة، والإصلاحات هي المدخل الأساسي.

    لإصلاح ليس صعباً. إنه يبدأ بالذات، بالقدوة التي تسمح وحدها بمحاسبة الآخرين. وإلا كيف تقدمت الدول والمجتمعات؟ كيف حكم القضاء الفرنسي على الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وعلى زعيمة اليمين مارين لوبين؟ وكيف دخل دونالد ترامب نفسه قبل الرئاسة إلى المحكمة؟ وسيلة الإصلاح تُختصر بكلمة لعلها وردت في كلام مقدس يقول: “ليس أحد يضع رقعة من ثوب جديد على ثوبٍ عتيق، وإلا فالجديد يشقّه والعتيق لا توافقه الرقعة التي من الجديد”.