تضاعف خوف اللبنانيين بعد تحذيرات الخبراء من وقوع هزّات وزلازل نتيجة قصف إسرائيل لمناطق جنوبية قريبة من الفوالق الزلزالية بأطنان من المتفجرات، وكان الاختصاصي في علم الجيولوجيا والزلازل في الجامعة الأميركية في بيروت الدكتور طوني نمر أول من دقّ ناقوس الخطر عندما حذّر من أن “التفجير في هذه المناطق ممكن أن يغير الضغوط على الفوالق خلال مدة قصيرة جداً وبالتالي ممكن أن يستحث هزات أرضية وزلازل”، ولفت إلى أن “التفجيرات الذي حصلت في العديسة وشعر بها أهالي شمال إسرائيل يجب ألا تمر مرور الكرام لأنه عندما تحصل تفجيرات كبيرة في المناطق الزلزالية حيث وجود فوالق من الممكن أن تؤدي إلى حدوث زلازل”.
وما إن صرّح نمر بذلك حتى نشطت مجموعة مشكّكة على وسائل التواصل الاجتماعي كما على بعض الوسائل الإعلامية، ومنهم شخصيات مشهود لها بالعلم والمعرفة، وسارعت إلى نفي احتمال وقوع أي هزّة أو زلزال، باعتبار “أنّ الزلازل لا يمكن أن تكون من صنع البشر”، و”أنّ التّفجيرات الكبيرة أصلًا لا تحدث في أعماق كبيرة، وليست بالموقع نفسه، كما أنّ عددها محدود نسبيًّا”.
ولا نعرف إذا كان هذا النكران من باب حسن النيّة وبهدف عدم التهويل ورفع المعنويات، أو أن هؤلاء الأشخاص ينتمون إلى تلك “الجماعة” الناشطة عالميًا على وسائل التواصل وفي وسائل الإعلام، والتي يشار إليها باسم “الناكرين”.
من هم “الناكِرون” وكيف ينسجون شباكهم؟
بحسب الإحصاءات العالمية، يظهر حوالي ٣٠٪ من الأشخاص شكوكًا مستمرة إزاء أي حدث يثار في العالم، وينتمي هؤلاء إلى جماعة تعرف بـ “الناكِرين”. و”الناكرية” ظاهرة عالمية، تتميّز بديناميكيتها، وتنشط وتتطوّر وتكتسب نفوذًا متزايدًا في زمن الكوارث والحروب والأوبئة مع كثرة تداول الأخبار وانتشارها على صعيد واسع، وتجد هذه الجماعة “أرضها الخصبة” في وسائل التواصل الاجتماعي، إذ ” يغرّدون أسرع من ظلّهم” كما وصفهم نيكولا غوفري، الأستاذ الباحث في العلوم المعرفية في جامعة ليل الفرنسية وصاحب مدوّنة “العقل وعلم النفس”.
وجذبت هذه الظاهرة اهتمام عدد كبير من الباحثين في علم النفس ومنظمي الدورات التدريبية، وذلك بهدف الحدّ من انتشارها، لما تسبّبه من تضليل وطمس للحقائق وإخفاء لآخر ما توصلّت إليه الأبحاث والدراسات.
وخلص الباحثون إلى وجود معسكَريْن متعارِضَيْن بشدة:
الأول يتألف من أشخاص غير متخصصين، متجانسين نسبيًا، مهمتهم نكران أي معلومة علمية، أما الثاني فيضم مجتمعات متنوّعة تتكوّن من علماء ووسائل إعلامية وناشطين في اختصاصاتهم، بالإضافة إلى مجموعة من الحسابات الحكومية.
وتبيّن أنه مع الوقت والتركيز على مواضيع تهم أكبر عدد ممكن من الأشخاص، ومن خلال ممارسة تعرف باسم l’astroturfing “الاستروتورفينغ” أي التلاعب بالرأي العام وإنشاء حسابات وهمية، يبدأ نفوذ هؤلاء “الناكِرين” بالتصاعد، فيكتسبون ثقة الناس لما يتمتعون من معرفة عميقة بالقضايا التي يحاولون دحضها، وتساعدهم في ذلك خطاباتهم الواثقة، وحججهم المصقولة بعناية، فتنتشر أفكارهم كالنار في الهشيم.
هذا إضافة إلى أنّ قسمًا آخر يعمل لصالح شخصيات حقيقية نافذة في الدولة مهمتها تبني مواقف مشكّكة ومضلّلة ومعادية، خدمة لمصالحها الشخصية.
في كتابه “مهندسو الفوضى”، يشرح الكاتب Giuliano Da Empoli استراتيجيات ما يسمى بـ”مستشاري المعلومات” لكل من الرئيس الأميركي السابق والمرشّح الحالي للرئاسة دونالد ترامب وللرئيسين المجري فيكتور أوربان والروسي فلاديمير بوتين، ورئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون، والتي كانت مهمتهم إرساء رؤية بديلة للعالم غير تلك المستندة إلى الملاحظات والقياسات الواقعية والملموسة، واستخدامهم ما يُعرف بـ “الحقائق البديلة”، والتي استُخدمت لأول مرة في العام ٢٠١٧ من قبل مستشارة لدونالد ترامب، لنفي هزالة الحضور الشعبي في حفل تنصيبه، وهي محاولة لجعل الناس يعتقدون بأنّ الأحداث مغايرة لما نسمعه في وسائل الإعلام، وهذا ما يحدث تحديدًا اليوم من قبل بعض المشككين والناكرين أنّ الزلازل لا يمكن أن تكون من صنع الإنسان؟
كيف بالإمكان التعرّف على المنكرين؟
من الثابت أنه يصعب تقدير مدى خبرة وثقافة أي شخص من خلال ما ينشره على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن الخبير الحقيقي يتحاشى الدخول في مجالات لا يفقه بها، فهو غالبًا ما يركّز بشكل رئيسي على جانب واحد من المشكلة التي يثيرها ويكون أقل ميلًا إلى الحديث عن جوانب أخرى معقدة وتقنية.
وفي هذا الصدد قدم عالم الرياضيات الفرنسي والكاتب دافيد شافالاريا David Chavalarias طريقة بسيطة نسبيًا لكشف “المشككين”، تبدأ بمراقبة الشخص على وسائل التواصل الاجتماعي وما إذا كان يغرّد في مجالات متعدّدة، فإذا كان الأمر كذلك، فهناك احتمال كبير بأن يكون من متبني الحقائق البديلة والإنكار المنهجي.
ويبقى الخطر إزاء هذا الموضوع في أنّ مع كل موجة من انتشار المعلومات المضلّلة لإنكار حدث ما، يليها عدم اكتراث من قبل المسؤولين الحكوميين المعنيين به، فتترك هذه “التحريفات للحقائق” آثارها المباشرة على صحة المواطن وحياته وأرزاقه.