"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث

"الإدمان على العمل" أكثر خطورة على الذات والآخرين من الإدمان على الكحول أو المخدرات!

كريستين نمر
الخميس، 5 سبتمبر 2024

"الإدمان على العمل" أكثر خطورة على الذات والآخرين من الإدمان على الكحول أو المخدرات!

في العام ١٩٦٨، كتب عالم النفس الأمريكي واين أوتس (١٩١٧-١٩٩٩)، مقالًا تحت عنوان ” أن تكون مدمن عمل”، تحدث فيه عن حاجته غير القابلة للسيطرة على العمل باستمرار. بداية وعي أوتس لإدمانه الشخصي على العمل، بدأت في ذاك اليوم الذي طلب فيه ابنه البالغ من العمر خمس سنوات موعداً منه، في مكتبه، ليُفضي إليه بهمومه ومشاكله. يروي أوتس كيف أدرك حينها أن العلاقة التي تربطه بعمله تشترك في نقاط معينة مع إدمان أحد مرضاه على الكحول. عالم النفس الأميركي تنبّه لمرضه وعالجه وحاول أن يفيد الآخرين من تجربته الشخصية. مشكلة الكثيرين الذين تتسبب بمشاكل لجميع من هم على علاقة بهم تكمن في أنّهم يتباهون ب”مرضهم”!

غالبًا ما يكون العمل لساعات طويلة ناجمًا عن ضغوطات مالية أو طموحات شخصية أو حاجات تنظيمية أو التزامات مهنية، ولكنّه، ومن دون دراية، يمكن أن يكون هذا الإنغماس المهني هوسًا يستهلك طاقة الفرد ووقته، فلا يعود قادرًا على القيام بأيّ نشاط آخر حتى لو كان ملحًا وضروريًّا. في هذه الحالة لا يعود الإنغماس المهني نشاطًا وتفانيًّا وحرصًا بل يصبح إدمانًا أو ما يعرف بالإنجليزية بالـ Workaholism، وهو المصطلح الذي اعتمده أوتس في العام ١٩٧١.

ثمّة دافع داخلي يميّز “مدمن العمل” عن غيره، إذ وفقًا لتعريف علم النفس، هو شخص يعمل على حساب عائلته وحياته الشخصية، ويكون لديه دافع قهري لتقديم المزيد من العمل يسمى بـ”الاضطراب القهري التدريجي”، وغالبًا ما يكون مميتًا إذ يترافق مع مطالب ذاتية مبالغ فيها وإجهاد قهري إضافة إلى عدم القدرة على تنظيم ساعات العمل.

وعلى الرغم من أهميتها، بقيت الأبحاث والدراسات حول إشكالية “الإدمان على العمل” محدودة جدًا، بحيث تمّ تناولها من جانبين، الأوّل سلوكي، وهو العمل بشكل مفرط، والآخر نفسي، وهو الانشغال به بشكل قهري وعدم القدرة على الانفصال عنه.

ورأى الباحثون في هذا المجال أنّ السبب وراء عدم قدرة “مدمن العمل” على الاسترخاء يعود الى شعوره الدائم بالذنب بأنه لا يفعل شيئًا. واعتبروا أن من أهم مسبباته هو عدم الاستقرار العاطفي والنفسي، إذ يجد الشخص ملجأه في النشاط المهني، فينفصل عن محيطه العائلي مما يزيد من التوترات والشرخ بينه وبين الشريك فتبدأ العلاقة بالتدهور وتنعكس سلبًا على الأولاد بشكل خاص والمحيط بشكل عام فيغدو في عزلة اجتماعية.

وعلى عكس ما يظن البعض فإن “الإدمان على العمل” لا يمكن أن يجعل “المدمن على العمل” موظفًا نموذجيًا، لما يسبّبه هذا السلوك من إرهاق مهني أو ما يسمّى في علم النفس “الاحتراق النفسي”، وهي متلازمة تشمل فقدان الإنتاجية، والانسحاب النفسي والسلوكي من العمل والزملاء. وهذا ما لاحظه عالم النفس الياباني كازومي كوبوتا وزملاؤه من جامعة طوكيو، بعد أن أجروا دراسة على عيّنة من ١٦٨٣موظفًا يابانيًا من مختلف القطاعات، إذ تبيّن أن الإدمان على العمل يؤثر سلبًا على جودة النوم، فـ”مدمنوه”، بدلًا من أن يكونوا مصدر فائدة للمؤسسة التي يعملون فيها، يتحوّلون إلى عامل ضغط كبير على زملائهم، إذ يرفضون تفويض مسؤولياتهم لأحد، ويقلّلون من شأن زملائهم باعتبار أن لديهم قدرات أقل منهم، فيغرقون تدريجيًا في الإرهاق الذي يولّد تراجعًا في الأداء وزيادة في التوترات والصراعات، إلا أنّ اللافت أنه على الرغم من تأثيراته الضارة، تنهال على هؤلاء “المدمنين” المكافآت لـ”حماستهم الزائدة” هذه من قبل أرباب عملهم مما يشجّع زملاءهم على الحذو حذوهم، فيصعب التعرّف على المشكلة وبالتالي يحول دون حلّها.

الفرق بين الإدمان والشغف

إنّ “إدمان العمل”، كما إدمان الكحول أو إدمان القمار أو المخدرات وغيرها، “آفة” تزرع السعادة في نفس “المدمن” فيجد فيها إشباعًا للذّة ما، إلا أنه يختلف عن الشغف بالعمل، فالأول له علاقة مباشرة بالآلام الجسدية وضيق التنفس وقلة الرضا عن الذات والحياة العائلية وحتى عن العمل نفسه، في حين أن الشغف بالعمل يرتبط بالشعور بالرضا تجاه العائلة والعمل معًا، بالإضافة إلى القدرة العالية على الإنتاجية، فينخرط الإنسان الشغوف فيه بحماس ويجد فيه التزامًا ومتعة وإبداعًا، فالموظف الملتزم، لجديته والتزامه وتفانيه يشبه إلى حدّ بعيد مدمن العمل، إلا أنّ ما يميّزه هو افتقاده لهذا الدافع القهري، فهو يعمل بجد لأنّ العمل يمنحه وعائلته الراحة المادية والمكافآت الخارجية، وليس بسبب دافع ملح يجب إشباعه.

في دراسة أجراها عالم النفس ويلمير شوفلي من جامعة أوتريخت في هولندا على ٥٨٧ من كبار ومتوسطي المدراء في شركة اتصالات هولندية، تبيّن من خلال استبيانين أحدهما يحتوي على مقياس للالتزام المهني وآخر يتضمن الإدمان على العمل، أن البعدين الأساسيين للالتزام هما الحيوية والتفاني وهما يختلفان عن العمل المفرط والقسري، إلا أن المشترك بينهما هو الاستغراق في العمل.

هل يمكن التحرر من قبضة “الإدمان على العمل”؟

في ظلّ غياب الأبحاث الكافية حول كيفية تطوّر “الإدمان على العمل” لم يتوصل علم النفس - لغاية الآن- إلى إيجاد أي رابط بينه وبين الاضطرابات السريرية، على الرغم من ذلك، فقد حاول برايان روبنسون من جامعة نورث كارولينا، استخدام العلاجات المعرفية والسلوكية للتغلّب عليه، وهي علاجات كانت قد بيّنت قدرات واعدة في علاج الإدمان على القمار حيث اعتمدت على الآتي:

  • تحديد علاقة المدمن بالمال.

  • نظرة المدمن لذاته وخوفه من الفشل.

  • إقناعه بأن للنجاح طرقًا أخرى غير العمل.

  • التخلّص من الأفكار غير العقلانية وغير المنطقية واستبدالها بأفكار أكثر واقعية، كإقناع “المدمن” بأن اكتساب القيمة الذاتية والثقة بالنفس لا علاقة لهما بالمكانة العملية أو الراتب.

  • الابتعاد عن كل شيء يتعلق بالعمل بعد انتهاء الدوام.

  • تحذير المدمن من الآثار السلبية التي يسببها إدمانه على عائلته ومساعدته على تبني سلوكيات جديدة.

ويبقى الأمل بمزيد من الأبحاث في هذا المجال لكي يصبح الموضوع أكثر انتشارًا بدلًا من إبقائه موضوعًا هامشيًا يطلقه الناس بصورة طنانة، علّه يحدّ من هذه الظاهرة التي باتت ضارة أكثر وأكثر بحياة الأشخاص ورفاهيتهم.

المقال السابق
الأردن: تهجير فلسطينيي الضفة إلى المملكة إعلان حرب علينا
كريستين نمر

كريستين نمر

محرّرة وكاتبة

مقالات ذات صلة

دراسة مثيرة.. هذا ما يحدث للدماغ عندما نقع في الحبّ!

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية