"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث

الإبداع الباريسي وغباء المتشددين

رئيس التحرير: فارس خشّان
السبت، 27 يوليو 2024

بالسر وتحت جناح الليل، أنجزت باريس انقلابها على وحوش هذا الكون، ونجحت أمس الجمعة، في تقديم الخيار الآخر للإنسانية، بأبهى صوره، في الحفل الافتتاحي غير المسبوق للألعاب الأولمبية.

كانت الخطط السريّة، في السنوات الأخيرة- من دون الغوص في التاريخ- مخصصة فقط للخدع الحربية. باريس حوّلتها إلى مناسبة للإبداع الإنساني، حيث يمكن أن يحل التآخي مكان العداوة، وتنتصر المساواة على التمييز، ويحل الإنفتاح بدل التعصب، وتستبدل الحرب بالمنافسة، ويتفوّق الفن على التسلح، وتنبت أجنحة لثقافة السلام لتنقذ البشر من براثن المتقاتلين، ويبرز التعاضد بديلًا للهيمنة.

لم تثبت باريس القدرة على تحقيق هذا الحلم الإنساني “الطوباوي”، ببيان أو خطاب، بل حوّلت نفسها، بكل معالمها التاريخية وهباتها الجغرافية وقدراتها التقنية وجهدها الإبداعي وشجاعتها التعبيرية، الى أكبر مسرح في العالم، جذب إليه نجوم الفن والفكر والرياضة.

ولكنّ باريس هذه، لن تخرج من إبداعها الذي خطف أنفاس العالم، معافاة بالكامل، فمن تحدّتهم بتقديمها الخيار البديل عنهم للعالم، بتفعيلها أروع ما في الديموقراطية، لن يتركوها تنعم بثمار إبداعها. بكروا في محاولة أذيتها. أرسلوا لها من حاول أن يعطل الحفل الإفتتاحي، فتناغمت التهديدات الإلكترونية مع تعطيل جزئية كبيرة من السكك الحديديّة. ولم يكد الحفل الإفتتاحي ينتهي بإطلاق بدره المضيء ليبقي الشعلة الأولمبية مضاءة في فضاء عاصمة الأنوار، طوال الألعاب الأولمبية، حتى خرج المتعصبون والمتشددون ليناقشوا اللوحات الفنية انطلاقًا من فهمهم الضيّق للتاريخ ومقاربتهم الاستغلالية للدين.

أصبحت كرامة المسيحية مثلًا، مجسدة بلوحة رسمها ليوناردو دافينشي ل”العشاء السري”، فقامت قيامة المتشددين المسيحيين واليمين المتطرف، على ما اعتبروه تدنيسًا لهذه اللوحة. إنّه الغباء الكامل في مواجهة الإبداع الكامل. ليوناردو دافينشي فنّان تخيّل مشهدًا إنجيليًّا ورسمه وفق مقتضيات خياله الخصب وريشته المبدعة. فنانو الإحتفال الباريسي ، على افتراض أنّهم أخذوا ملامح هذه اللوحة، في إطار تكريمهم للمبدعين التاريخيين، وتخيلوها تصلح لمجمع الآلهة الإغريق، حيث يجتمع 12 إلهًا برئاسة زوس، وجميعهم بأشكال رجال ونساء، في جبل “أولمبيا”، ويتحكمون بحياة البشر ومصيرهم.

في الواقع لم تناقش اللوحة الإبداعية الباريسية “العشاء السري” المسيحي، بل ذهبت الى جبال الأولمب الإغريقية وغرفت من “أليازة” هوميروس ما نظمه من شعر في “مائدة الآلهة” التي خلدها رسامون بلوحات تجول في أكثر من متحف أوروبي ، حيث تُعرض لوحات للرسامين فان بييرت وفان بالين وبروغيل، وعنوانها” مائدة الآلهة الإحتفالية”. وفق هوميروس فإنّ مائدة الآلهة ترمز الى الحياة السعيدة في ظل البحبوحة والسلام.

المتشددون الآخرون، من كل الأديان، لم يعجبهم هذا التعاضد والتآخي والتسامح بين المختلفين، باللون والعرق والتوجه الجنسي والجذور الثقافية والإنتماءات الجغرافية، فشنوا هجومًا على باريس “المنحلة”، “المنحرفة”، “الكافرة”، حتى بدا أن خناجرهم المسمومة مقدسة في حين أنّ أجنحة باريس الحاضنة، مدنّسة!

سوف يستمر هؤلاء الوحوش في محاولة فرض معادلاتهم على البشرية، ولكنّهم لم ولن ينجحوا. باريس رفعت نفسها الى مرتبة متفوقة في مسار الإبداع، فيما هؤلاء سيبقون، مهما لعبوا على الغرائز، في تلك الحفرة السوداء التي مهما التهمت منّا، لن نسمح لها بأن تنتصر!

المقال السابق
أولمبياد باريس تعتذر من كوريا الجنوبية
رئيس التحرير: فارس خشّان

رئيس التحرير: فارس خشّان

مقالات ذات صلة

"حزب الله" خسِر وخسّرنا!

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية