حاول وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه الحصول على م علومة “ذهبية” واحدة من إسرائيل، خلال زيارته لها، الثلاثاء الماضي: في حال تمّ التوصل الى هدنة في غزة، هل سينسحب الهدوء العسكري على الجبهة اللبنانية- الإسرائيلية؟
ولكن- وفق مصدر دبلوماسي رفيع المستوى في فرنسا- فشل سيجورنيه في الحصول على جواب إيجابي عن السؤال الذي طرحه بأشكال متعددة على نظيره الإسرائيلي يسرائيل كاتس، بداية ومن ثم على رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو.
آخر موقف إسرائيلي رسمي في هذا السياق، كان قد أعلنه، في شباط الماضي وزير دفاعها يوآف غالانت، حين قال إنّ كيانه لن يوقف النار على الجبهة مع لبنان، إذا توقف إطلاق النار في غزة، وذلك حتى يتحقق “الأمن الواجب” لسكان شمال إسرائيل.
من بعد هذا الموقف، لم يصدر ما يناقضه، الأمر الذي أوجد إشكاليّة تسببت بتوقف المساعي الدبلوماسيّة الهادفة الى احتواء التصعيد على الجبهة اللبنانية- الإسرائيلية، إذ إنّه في مقابل رفض “حزب الله” البحث في أيّ تسوية قبل وقف النار في غزة، بيّنت إسرائيل أنّها، في حال هدأت في غزة، ولم تكن الشروط الأمنية قد توافرت على الحدود مع لبنان، فهي سوف تصعّد المواجهات، بحيث تُفيد جبهتها الشمالية من استرخاء جبهتها الجنوبية.
ووفق المصدر الدبلوماسي رفيع المستوى في فرنسا، فإنّ سيجورنيه سمع “ما لا يطمئِن أبدًا” في إسرائيل، إذ اعتبر كاتس أنّ العودة الى ما كانت عليه حال الحدود اللبنانية- الإسرائيلية في السادس من تشرين الاول الماضي، أي قبل بدء حرب “طوفان الأقصى”، “غير مقبول على الإطلاق”، مقدّمًا خطة بلاده لضمان أمن شمال إسرائيل، من خلال إيجاد منطقة عازلة، برعاية الجيش الإسرائيلي، داخل الأراضي اللبنانية.
وهذا يعني أنّ إسرائيل، في حال لم يسحب “حزب الله” قوته العسكرية من جنوب نهر الليطاني، تختار سيناريو معدّل لاجتياح العام 1978، حيث أوجدت شريطًا حدوديًّا، داخل الأراضي اللبنانية، بمساحة سبعمائة كيلومتر مربع، بدل الآلية التي اتُبعت، منذ آب 2006 حتى السادس من تشرين الأول الماضي، في تطبيق القرار 1701 الذي أنهى حرب تموز 2006.
والمنطق نفسه الذي أوجد فكرة إقامة شريط حدودي داخل لبنان في العام 1978 يعود، اليوم الى إسرائيل، فحينها، ومن أجل منع تكرار هجوم داخل إسرائيل نفّذته مجموعة فلسطينية بقيادة دلال المغربي بتخطيط من “أبو نضال”، كانت “عملية الليطاني” التي نجحت في إيجاد شريط أمني داخل لبنان.
وفي الحادي عشر من آذار1978، اهتزت إسرائيل على وقع عملية “كمال عدوان” التي حصلت على الطريق الرابط بين حيفا وتل أبيب. وخلال هذه العملية، تمّ خطف حافلة إسرائيلية مليئة بالركاب كانت في طريقها نحو تل أبيب، مما أدة الى مقتل 37 إسرائيلياً و9 فلسطينيين. وفي 14 آذار( مارس)، أي بعد ثلاثة أيّام، من هذه العملية، شنّت إسرائيل حربًا على لبنان واجتاحت منطقة جنوب نهر الليطاني.
وبرأي إسرائيل، فإنّه بعد هجوم “حماس” على غلاف غزة، في السابع من تشرين الأول الماضي، فإنّ شيئًا لا يمكن أن يضمن مناخًا آمنًا لسكان شمال إسرائيل، سوى إبعاد “حزب الله” كليًّا، عن حدودها الشماليّة، بتطبيق صارم لمقتضيات القرار 1701.
في المقابل، فإنّ “حزب الله” يرفض هذا الطرح الإسرائيلي، ويريد العودة، عند توقف الحرب في غزة، إلى المعادلات التي كانت عليها الحال في السادس من تشرين الأوّل إلّا إذا وافقت إسرائيل على ترتيبات عدة من بينها، وقف خرق المجال الجوي اللبناني، والتراجع عن الخروقات المسجلة على “الخط الأزرق”، والإنسحاب من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا.
وإذا كانت إسرائيل تهدد بشن حرب واسعة على لبنان لتوجد بنفسها ما يضمن العودة الآمنة لمن تمّ إجلاؤهم من شمالها، فإنّ “حزب الله” يقول إنه في هذه الحالة “هلا ومرحب بالحرب”.
وأمام هذا الواقع الخطر الذي يحتّم نشوب الحرب ويجعل التساؤل محصورًا بتوقيتها فقط، تتحرك الدبلوماسية الفرنسية في محاولة لإيجاد “ترتيب وقائي” بحيث يتم نزع فتيل الإنفجار الكبير حتى لا يشتعل، عند وقف إطلاق النار في غزة.
ولكنّ إسرائيل لا توافق على هذه النوعية من الجهود الدبلوماسية، إذ إنّها تربط نزع فتيل الحرب بتوفير الضمانات الأمنية لسكان شمالها، بحيث يسحب “حزب الله” قواته من جنوب نهر الليطاني، وبعدها تبدأ المحادثات لترتيب أوضاع الحدود بين البلدين.
آموس هوكتشاين، الوسيط الأميركي، أدرك هذا الواقع، فخفض مستوى مساعيه الى أدنى حد. هو كان في إسرائيل، الأسبوع الماضي، ولكنّه، على خلاف ما تردد في لبنان، لم يكن بمهمة دبلوماسية بل بصفته إسرائيليًّا ويهوديًّا، حيث أمضى إجازة عيد الفصح اليهودي مع عائلته هناك، مثله مثل أي مغترب يعود بالمناسبات والإجازات الى وطنه الأم.
وعلى هامش هذه الإجازة، إلتقى بوزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، حيث فهم منه أنّ بلاده لا تزال على موقفها، في حين كان قد فهم من قنواته داخل لبنان أنّ “حزب الله” هو الآخر لا يزال على موقفه.
وعلى خلاف الدبلوماسيّة الفرنسية بالموضوع اللبناني، فإنّ هوكشتاين لا “يتطوّع” لفرض حل، بل ينتظر أن يتم استدعاؤه ليقبلوا بالحل الذي يكون قد سبق أن طرحه.
وبالفعل، فهو أتى، مرتين الى لبنان، بناء على استدعاء مقربين من “حزب الله” له، وتوقف عن ذلك، حين لمس أنّ هؤلاء ينشدون “جعجعة” وليس “طحينًا”.
وسبق أن اعتمد هوكشتاين هذا النهج، حين نجح في التوصل الى اتفاق بين لبنان وإسرائيل في ملف ترسيم الحدود البحرية، إذ إنّه كان قد أودع السلطات اللبنانية تصوّره وغادر، ولم يعد إلّا حين تمّ استدعاؤه لبنانيًّا على قاعدة القبول بالتفاوض حول تصوّره، وذلك من أجل إنزال كل من “حزب الله” وإسرائيل عن “شجرة الحرب”، فإسرائيل كانت تستعد لبدء ضخ الغاز من حقل كاريش البحري و”حزب الله” هدد بقصف الباخرة التي تتولّى مهمة الضخ. يومها، ومن أجل سحب فتيل الحرب، تنازل لبنان عن الحقوق التي يقول إنها ثابتة له في الخط 29، وقبل فقط ب”حقل قانا”.
ولأنّ هوكشتاين مقتنع بأنّ الأرضية اللبنانية غير ملائمة، بعد، لدبلوماسيّة تتفاعل إيجابًا مع الطرح الإسرائيلي، فهو خفض من مستوى تحركه، تاركًا الإدارة الفرنسية تجرّب حظها العاثر في صناعة معجزات في لبنان، وسط قناعة بأنّ حظوظ جهود باريس الحالية في النجاح لا تختلف أبدًا عن حظوظها سابقًا في تطبيق المبادرة الفرنسية التي أطلقها الرئيس إيمانويل ماكرون بعد انفجار مرفأ بيروت، وفي التوصل الى تسوية لانتخاب مرشح “الثنائي الشيعي” سليمان فرنجية رئيسًا للجمهوريّة.
في واشنطن، ثمة قناعة راسخة بأنّ “حزب الله” لن يقبل بأيّ تسوية تسحب فتيل الحرب، إ لّا عندما يلمس جديّة إسرائيليّة بخوضها، تمامًا كما حصل حين دعم تراجع لبنان الرسمي عن المطالبة بالخط 29 البحري، ولكن في باريس يخشون أن يقبل “حزب الله”، هذه المرّة، بخوض هذه الحرب، لأنّ المطلوب منه أن يسلّم به دبلوماسيًّا، هو هزيمة يُفضلها أن تكون عسكريّة، لأنّ التسليم دبلوماسيًّا يُلغي حقه بالمناورة، في حين أنّ الهزيمة عسكريًّا تعطيه “مشروعيّة” مواصلة مشروعه على قاعدة أنّه “مقاومة تحريريّة”.