“لقد رحل أقاربنا وأصدقاؤنا وأحباؤنا، وأنا وعروسي كالأحياء الأموات” هذا ما قاله عريس الحمدانية الذي فقد خمسة عشر شخصًا من أقاربه، بينما فقدت عروسه عشرة في حفل زفافهما، من بينهم أمها ووالدها وشقيقها، إضافة إلى أكثر من مائة ضيف، في الحريق الذي حوّل فرحتهما إلى مأساة.
إن فقدان شخص عزيز هو دائماً تجربة صعبة لما يرافقه من حزن وانكسار، بحيث يظن المرء أنه من غير الممكن أن يستعيد سلامه الداخلي، ولكن لطالما سمعنا أن كلّ شيء يبدأ صغيرًا ويكبر باستثناء المصيبة التي تبدأ كبيرة وتصغر مع مرور الوقت.
تعدّدت طقوس الحداد على مرّ الحضارات على الرغم من أن الموت واحد، بحيث تمّ استخدامه كآداة لمساعدة الحزانى على استعادة سكينتهم وترتيب أفكارهم وتطوير ذواتهم وتأقلمهم مع الواقع المستجدّ.
أما في علم النفس الحديث، فإنّ أول ما عاد وأوجد مفهوم الحدِاد، كان سيغموند فرويد في مقال كتبه عام١٩١٧ بعنوان “الحزن والاكتئاب” حيث ربط بينهما وبين الفقدان وما يرافقه من شعور بالألم الذي اعتبره “جزءًا لا يتجزأ من الحداد”.
وأعطى فرويد في مقاله هذا، بعض النصائح لاسترداد الطاقة النفسية التي غالبًا ما تستهلك إثر موت قريب، كما شرح عدم الشعور بالألم عند الكثيرين بأنه “انعكاس لعلاقة سطحية بلا استثمار عاطفي حقيقي، أو رفض جامح يستخدم كآلية دفاعية غير مستحبة على المدى الطويل بالنسبة للتوازن النفسي”.
وبعد حوالى النصف قرن تقريبًا، على مقالة فرويد هذه، أعادت الطبيبة النفسية السويسرية إليزابيث كوبلر ـ روس في دراسة لها، العمل مجدّدًا على مراحل الحداد، بحيث اعتبرت أن المرء ليتخطّى حزنه عليه أن يمر بخمس مراحل مختلفة هي:
الإنكار: حيث يجد المرء صعوبة في تصديق الأمر
الغضب: حيث يثور ضد ما يعتبره ظلمًا وجورًا
المساومة: حيث يأمل استعادة حياته السابقة مقابل تضحية
الاكتئاب: حيث يكون الحزن مكبوتًا ويقلّل من متعة الحياة بشكل عام.
القبول: متى مرّ الشخص المفجوع بهذه المراحل، يأتي القبول الذي يسمح له بالمضي قدمًا.
إلا أن مشكلة هذه النماذج، والتي هي أساسًا، نُسَخًا منقحّة عن تجارب يمرّ بها المرضى ذوات المصير المحتوم، برزت في اعتمادها على فرضيّات ونظريات كان من الصعب تعميمهما، إلى أنّ جاء جورج بونانو، أستاذ علم النفس السريري في جامعة كولومبيا، الذي قام بالعديد من الأبحاث التي غيّرت النظرة للحداد.
ففي كتابه “الجانب الآخر للحزن”، والذي يكشف فيه عن مدى قدرات دماغ المرء على التعافي والتحمّل لتجاوز هذه التجارب دون أن ينهار، أعاد النظر في مسألة النماذج التقليدية، بحيث رفض فكرة أنّ الحداد مسار يجب على المرء سلوكه لاستعادة عافيته.
ويقول بونانو: “إنّ الثابت الوحيد هو وجود الحزن بأوقات متفاوتة، حيث يأتي على شكل أمواج عاتية تجتاح حياة المفجوعين، لتفسح بعدها المجال لعاصفة من المشاعر الأخرى أكثر سعادة.”
ولأنّ عامل الحزن أمر فردي وشائك، فقد تتفاوت المشاعر بشكل كبير، بين شخص وآخر، إذ يأتي للبعض على شكل إدمان، بحيث لا يكفّون عن ابداء رغبتهم المستمرة بعودة الشخص المفقود، فيدمّرهم نفسيًا، ويمرّ آخرون بلحظات من الرضا والسّكينة، فيتكيّفون مع واقعهم ويحاولون حصر حزنهم في مناسبات تحيي ذكرى فقيدهم.
“فضائل الشخص المتوفي”
يقول البروفيسور جورج بونانو: “إن شريحة كبيرة من الأشخاص المفجوعين يشعرون بالامتنان والراحة في كل مرة يتذكّرون فيها الشخص المتوفي واللحظات التي أمضوها معه، وهذا ما يسمّى في علم النفس ب”فضائل الشخص المتوفي”، فالحديث عن مآثره وتعظيمه غالبًا ما يستخدمه الحزانى كآلية للتخفيف من لوعة الفراق، مما يدحض الفكرة الشائعة بأن الحزن الهادئ والذي لا يتسمّ بشدة الألم هو إشارة إلى الإنكار أو دليل على حالة من الاضطراب النفسي.
وعليه، فإنّ الحداد ليس إجراء يتوجّب على الإنسان أنّ يمرّ من خلاله بمراحل معينة وضمن ترتيب محدّد وفقًا لتوجيهات الاختصاصيين، لا بل وُجد لمؤازرة المرء حتى يتمكّن من التعبير عن مشاعره بأشكال قد تكون أكثر أو أقل حدة وبما يتناسب مع طبيعته، فالمرور بأوقات من الفر ح والسعادة، حتى عندما يكون الموت حديثًا، ليس تناقضًا، إنما أمر الطبيعي و انعكاس للحقيقة الجدلية لهذه التجربة، والقول الشعبي: “الجمرة ما بتحرق إلا مطرحها”، قد يلخّص ربما جوهر ما يمكن أن يجلبه الحزن من تناقضات لحياة المرء، فعلاوة عن اللوعة، هناك الذكريات الجميلة التي قد تبلسم الجرح التي تركته هذه الجمرة.