الدولة السورية “الطبيعية” لم تُبنَ بعد. هذا مشوار طويل وشاق ومضن، وهو يحتاج إلى طاقات جبارة قادرة على تجاوز الانتقامات والأحقاد المتراكمة والطموحات والمصالح المتعاظمة، والشكوك والمخاوف المشروعة. ومع ذلك فإقامة مثل هذه الدولة، تبقى بعيون الكثيرين “وعدًا قابلًا للتحقيق” و”هدفًا هناك إرادة تعمل على إنجازه”!
إنّ وجود وزير الخارجية في الحكومة السورية الانتقالية أسعد شيباني في منتدى “دافوس”، الأسبوع الماضي، لا يزال يتفاعل، ليس بصفته حدثًا غير مسبوق في تاريخ سوريا، وليس بصفته يمثل حكومة تنتسب إلى واحدة من تنظيمات الإسلام السياسي “المكروه” عالميًا، وليس لأنّه ينقل دولة عربية محورية في الشرق الأوسط إلى النظام اللي برالي الذي يشكل منتدى دافوس “هيكلًا” لديمومته، فحسب بل أيضًا لما تضمنته مواقف شيباني من اقتداء بالتطلعات الريادية لما يسمّى ب”عرب الاعتدال” عمومًا وإعلانه انّ فريقه يستلهم المخططات الطموحة التي يعمل عليها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
طبعًا، لم يكن موقف شيباني بلا سياق، اذ إنّ كثيرا من المراقبين توقفوا طويلًا عند مضمون التهنئة التي وجهها زعيم سوريا الجديدة أحمد الشرع إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعيد تنصيبه، وأبلغه فيها بأنّه يمكن أن يعتمد على سوريا كدولة شريكة في صناعة السلام في الشرق الأوسط، في موقف يمكن ان يصل إلى قلب “اتفاقيات إبراهيم”!
ولم تمر هذه الخطوات والمواقف مرور الكرام، بل تركت آثارها الإيجابية على القيادة السورية الجديدة، ومن يقارن بين الكلمة المسهبة التي ألقاها وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان من “قصر الشعب” في دمشق وتلك المقتضبة التي ألقاها من “قصر بعبدا” في لبنان، يمكنه ان يستدل إلى تقدم دمشق على بيروت في العقل العربي، على الرغم من الإشكالات التي تطرحها دول خليجية وعربية أساسية!
في لبنان بدت الرياض تقول: نفذوا وعودكم في بناء دولة مستحقة، ونحن سنأتي، بعد ذلك، إلى مساعدتكم!
في سوريا اعتمدت الرياض معادلة مختلفة: طالما لديكم الإرادة والتصميم والجدية، فنحن سوف نساعدكم في بناء الدولة!
وهذا الفارق في التوجه السعودي كان قد كشف الأمير فيصل بن فرحان أسبابه من منتدى دافوس، عندما اعلن أنّ القيادة السورية تتحدث في العلن ما تتحدث به في الغرف المغلقة!
وقد اعتبر كثيرون أنّ تشديد بن فرحان على هذه الميزة السورية الجديدة، ليس مجرد انتقاد لما كان يعاني منه الجميع مع الرئيس السوري الهارب بشار الأسد، اذ كان يعلن ما لا يضمر ويعد بما لا ينجر، بل هو أيضًا “لطشة” إلى مسؤولي لبنان الذي كان يتحضر للانتقال اليه، لتسجيل أوّل زيارة من نوعها لوزير خارجية سعودي، منذ ١٥ سنة.
بالنسبة لسوريا، يصدق الجميع بأنّ قيادتها الجديدة، لا تتهاون في السير باتجاه قرار اخراج البلاد من الدائرة الإيرانية، ولا في قرار توحيد البندقية، ولا في قرار وضع حد لتهريب السلاح والمخدرات والمحظورات، ولكن الجميع ليسوا كذلك بالنسبة للبنان، فهم يعرفون أنّ ادعاء الكثيرين العمل على تحرير الدولة من أعباء “حزب الله” الملحق كليًّا بالأجندة الإيرانية، ليس صارمًا بل يخضع لمعادلة تبادل المصالح، ولميزان القوى وللارتباط المادي والعقائدي.
وكانت المعلومات عن توفير حصانة لكبير مسؤولي مخابرات الجيش اللبناني في الجنوب ، على الرغم من أنّ المعلومات عن تسريبه معلومات من غرفة عمليات تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار إلى “حزب الله”، تتنقل من لبنان في اتجاه جميع العواصم المعنية بلبنان.
وتأتي المعلومات الخاصة بخلفية عرقلة تشكيل الحكومة الجديدة لتزيد الطين بلة.
ولم يكن ينقص لبنان، في هذا السياق، سوى رؤية مئات الموتوسيكلات تجول في أنحاء لبنان، على خلفية تأكيد مسؤولي “حزب الله” على تمسكهم بمعادلة الخراب اللبناني: الجيش والشعب والمقاومة!
وهذه معادلة يفترض ان يكون اتفاق وقف إطلاق النار قد وضع حدًا لها، لأنّ قرار اخراج حزب الله من جنوب نهر الليطاني يعني عمليا تفكيك “مؤسسة المقاومة”، على اعتبار أنّ هذه وظيفة طبيعية مرتبطة حصرًا بالأرض المحتلة!
ولا يوجد نزاع على متر ارض واحد محتل شمال نهر الليطاني، حيث يزعم “حزب الله” أنّه يملك الحق، على الرغم من الاتفاق، على حيازة السلاح واستيراده وتصنيعه وتركيبه!
وبناء عليه، فإنّ التعاطي مع سوريا، وهي في مكان ما في وضعية المنافسة مع لبنان على جذب الدعم والمساعدة والقروض الميسرة والاستثمار، تنطلق من أنّ دمشق تُبدي جدية ميدانية كبيرة، في وقت لا يزال لبنان فيه تائهًا بين المنابر والغرف المغلقة!