"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث

الانجذاب إلى متابعة المآسي.. تعويد للنفس على الخطر من أجل مواجهته

كريستين نمر
الثلاثاء، 21 نوفمبر 2023

الانجذاب إلى متابعة المآسي.. تعويد للنفس على الخطر من أجل مواجهته

صور مروعة لأطفال خدّج يحتضرون جرّاء انقطاع الاوكسيجين والكهرباء عنهم، سيدات يندبن ورجال يتحسّرون على جنى عمرها فوق منازل سُوّيت بالأرض… وفي المقلب الآخر، أناس مسمّرون أمام الشاشات، يشاهدون، يصرخون غضبًا، يبكون، يتألّمون… فما الذي يحمل المرء على متابعة هذه المشاهد على الرغم من قساوتها؟

غالبًا ما ينجذب المرء إلى القصص والأحداث المؤلمة والمخيفة، فيتابع بشغف أخبار الحروب والأوبئة والكوارث الطبيعيّة… وقد آثار هذا التناقض في السلوك الذي وصفه البعض ب “المريب”، استغراب الخبراء لفترات طويلة، بحيث توصلوا بعد دراسات، إلى استنتاج بأنّ رغبة المرء بالشعور بالخوف، هي عامل مساعد لبقائه على قيد الحياة وحاجة متأصّلة في تاريخه التطوّري، وأحد العوامل الأساسيّة، في التغلّب على الخوف ومواجهة التحديّات الطارئة، وقد أطلقوا على هذه الظاهرة اسم “جاذبية الرعب”، الذي هو جزء من “علم الفضول المريب والترفيه المرعب”.

وقد تطرّق داروين في كتابه “نسل الإنسان” إلى هذه الظاهرة عندما تحدّث عن قردة مسجونة تخاف من الثعابين، ومع ذلك لا تتوقف عن رفع غطاء صندوق يحتوي عليها. وبناء على هذه الرواية أجرى تجربته الشهيرة حيث وضع كيسًا يحتوي على ثعبان في قفص مليء بالقرود في حديقة الحيوانات في لندن، وعندما اقترب أحدهم بحذر من الكيس، وفتحه ببطء ورأى ما بداخله فرّ مستغيثًا، ثم قامت سائر القرود بالحذو حذوه، وكانت ردود فعلها مماثلة. ووصف داروين حالتها بأنها: ” ترويض على الجوع والرعب”.

ولكن لماذا يقوم المرء “بمتابعة” الأخبار التي يخشاها على الرغم من الخوف من أن تطاله؟

كثيرة هي التهديدات التي يواجهها الإنسان في حياته، ومع ذلك، لا يتوقّف عن البحث والتفتيش عنها سواء من خلال الروايات أو الأفلام أو المسلسلات أو التقارير الإخبارية أو الأفلام الوثائقية… وقد أطلق علم النفس على هذه الظاهرة، “المتعة اللذيذة في الفضول المرضي”، التي هي وسيلة فعّالة للحصول على معلومات حول العناصر الأخطر في محيطه، فالمخاطر المبالغ فيها تثير ردود فعل عاطفية وسلوكية قويّة، تجعله يعوّد نفسه عليها في حال تربّصت به، فإغواء النفس بالقصص التي تكثر فيها التهديدات، تمثّل استراتيجية فعّالة وثمينة للدماغ، إذ تسمح للمرء باكتشاف جميع الأخطار المحتملة من دون الحاجة إلى مواجهتها بنفسه.

من الملاحظ انّ الأكثر استهدافًا في الروايات المخيفة هم الأطفال، وقد يكون الهدف مساعدتهم على التعرّف على المخاطر ومواجهتها منذ صغرهم. فإذا عدنا على سبيل المثال إلى قصة “ليلى والذئب” التي تدور أحداثها في الغابة، نجد أنّ الهدف منها هو إيصال رسالة آمنة ومسلّية للأطفال بأن الغابات تعجّ بالذئاب الخطرة، لكن، سردها في مكان آمن، قد يقدّم درسًا قيّمًا لهم.

في العام ٢٠٢٠، أوقعت جائحة كوفيد-١٩ العالم في أزمة كبرى، كان أثرها كبيرًا على صحّة الناس النفسية والعقلية والاجتماعية والاقتصادية بالتساوي بين الجميع، إلا أن نسبة التحمّل والمواجهة تفاوتت بينهم.

لماذا؟

في دراسة أجراها كولتان سكريفنر من جامعة شيكاغو، خلال الأشهر الأولى من الجائحة، تبيّن أن الأشخاص الذين شاهدوا فيلم “الوباء”،“كونتاجيون”، (٢٠١١)، كانوا أكثر استعدادًا للتغييرات الاجتماعية التي استجّدت عليهم، فمشاهد فرز المرضى في المستشفيات وإعطاء الأفضلية في المعالجة للأصغر سنًّا والشّلل الذي طال القطاعات كافة وحظر السفر وتخزين المواد الغذائية … أحداث هيّأت “عشاق” الفيلم، بشكل غير مباشر، لتقبّل فكرة وجود وباء عالمي وساعدهم على مواجهته.

ويشرح كولتان سكريفنر، أنّ “قراءة روايات أو مشاهدة أفلام مخيفة قد تكون أكثر فعالية عندما يعيشها الأفراد كجماعة”. وقد أظهرت الدراسات التجريبية أنّ الخطر والخوف يمكن أن يكونا قوّتين اجتماعيتين إيجابيتين.

إذا كان البالغون يشعرون بالهلع من خلال قراءة القصص أو مشاهدة الأفلام، إذ أن مثل هذه النشاطات قد تسمح لهم بتبني حلول أكثر إبداعًا تجاه الأحداث الخطيرة وغير المتوقعة، فإن الأطفال قد يجدون ضالتهم، إضافة الى القصص، في الألعاب التي تثير الرعب.

ففي هولندا، قام مختبر “ألعاب للصحة العاطفية والعقلية” الذي أسسته أستاذة علم النفس التطوري إيزابيلا غرانيك بابتكار لعبة أطلقت عليها اسم “ضوء العقل” وقد أثبتت فعاليتها في تقليل القلق لدى الأطفال.

تتمحور اللعبة حول طفل يُدعى آرتي يجد نفسه مضطرًا على انقاذ جدته بعد ما اجتاح منزلها مخلوقات شريرة أغرقته في الظلام، ولتحقيق ذلك، طلبت من اللاعبين الذين يتحكّمون في الشخصية استخدام الضوء للتغلّب على المخلوقات، وتبيّن أنه كلما كان اللاعب متوترًا كلما خفّ أداؤه، وكلما كان هادئًا كان أكثر استرخاءً وقدرة على استبعاد الأفكار السلبيّة و… إنقاذ الجدّة.

وعليه، فإنّ مشاهدة المآسي والشعور بالخوف ليس شيئًا سيّئًا، فهي تتيح للمرء استكشاف بيئته الحقيقية، وتساعده على تقدير المخاطر المحدقة به وعلى تبنيه حلولًا أكثر ابداعًا تجاه الأحداث الخطيرة وغير المتوقعة، شرط ألا توقعه في وسواس القلق الوجودي.

المقال السابق
حركة مطار حامات العسكري تُثري الروايات التآمرية... وهذه هي الرواية الرسميّة لما يحصل!
كريستين نمر

كريستين نمر

محرّرة وكاتبة

مقالات ذات صلة

"مفترس في هارودز" وثائقي يتهم محمد الفايد باغتصاب موظفات وابتزازهن

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية