لم تُحقق فرنسا، بعد، النتائج التي تسمح لها بإعلان نجاحها في مساعيها اللبنانيّة، ولكن لا يستطيع أحد، في المقابل، وصف الجهود الفرنسيّة بالفاشلة، إذ إنّ إدارة الرئيس إيمانويل ماكرون، أنجزت، ولو ببطء سلحفاتي، خطوات نوعيّة.
ولولا فرنسا لكانت شؤون لبنان وشجونه مرميّة على قارعة الأمم، فهي، وبعدما رفع الجميع أياديهم عن لبنان، مسلّمين بأنّه أصبح “مستعمرة إيرانيّة”، ثابرت على الإهتمام به وفرضته على جدول لقاءاتها على امتداد الكرة الأرضيّة.
وفي وقت لم تهتم فيه الولايات المتحدة الأميركية إلّا بملفات تُعنى بنزع فتيل الإنفجار بين “حزب الله” وإسرائيل، مركزة جهودها على صمود الجيش اللبناني ومكتفية بمخاطبة لبنان بلغة العقوبات، جهدت فرنسا من أجل إبقاء لبنان في “الذهن العالمي”، بأسلوب جرّ عليها، في كثير من الأحيان، الكثير من الإنتقادات وبعض الإتهامات.
ولعلّ النجاح الأبرز الذي يُحسب للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يتمثّل في إقناع الممكلة العربيّة السعوديّة، بعد طول تمنّع، بالعودة مجدّدًا الى الإهتمام بلبنان وشؤونه وشجونه، على اعتبار أنّ إنقاذ “بلاد الأرز” مستحيل من دون معونة “بلاد التوحيد”.
ولا يُخفى على أحد ما بذله ماكرون من جهود في هذا السياق مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي كانت له شروطه الواضحة للقبول بإعادة اهتمامه بلبنان، وفق ما تجلّى في البيانات المشتركة الخاصة به وكلّها، بدءًا بالإعلان الفرنسي- السعودي في جدة في الرابع من كانون الأول/ ديسمبر 2021، تركز على وجوب تطبيق القرارات الدولية ذات الصلة، تتقدمها تلك التي تربط بين نزع سلاح “حزب الله” وإقامة الدولة، كالقرار 1559 عل سبيل المثال لا الحصر.
وقد تجلّى الدخول السعودي القوي على الخط اللبناني، في الإجتماع الذي دعا اليه السفير السعودي في لبنان وليد بخاري للنواب السنة، أوّل من أمس بحضور الممثل الشخصي للرئيس الفرنسي جان ايف لودريان على شرف مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان، في مسعى جديد لإظهار أن ّ المكوّن السني في لبنان ليس حرفًا ناقصًا في صناعة القرار اللبناني، كما جرى تصويره لمرحلة طويلة.
وكانت باريس قد جهدت بقوة لدى الرياض لتعويم الدور السني في المعادلة اللبنانية، بعد الفراغ الذي أحدثه تعليق رئيس تيار المستقبل سعد الحريري لعمله السياسي ومقاطعة الإنتخابات النيابية الأخيرة.
وثمّة اعتقاد واسع في لبنان والخارج بأنّ الحريري لم يكن ليتّخذ قرارًا مماثلًا لولا رفع المملكة العربية السعودية يدها عنه وعن لبنان.
ويقدّم سعي باريس الى إعادة السعودية الى المعادلة اللبنانية الدليل على أنّ الرئيس ماكرون لم يرغب يومًا في عقد صفقة مع الجمهورية الإسلامية في إيران على حساب لبنان، بل هو، ولو كان يصر من أجل تسهيل مهمة إدارته لبنانيًّا على الأخذ في الإعتبار موقع “حزب الله” المتقدم في المعادلة، عملًا بالواقعية السياسيّة، إلّا أنّه عمل بلا هوادة من أجل أن تعود الرياض بقوة الى بيروت ليخلق حضورها الوازن توازنًا مع إيران غاب لسنوات عن “بلاد الأرز”.
ولعلّ نقطة قوّة فرنسا الأساسيّة في لبنان تكمن في عناد رئيسها على تجاوز العقبات التي تواجه المهمة التي “تطوّع” لأجلها، بعد انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/ أغسطس 2020، فهو كان بعد تهافت النبوءات على يأسه من لبنان، يخيّب ال ظنون ويعود من حيث لا يتوقع أحد، وليس أدل على ذلك أنّه بعدما وصلت مساعي الخلية الدبلوماسية في قصر الإليزيه الى نقطة اللا إنتاج، أخرج جان ايف لودريان من “تقاعده المزعج”، وكلّفه، بعدما أعطاه مرتبة معنوية مهمة، بالملف اللبناني.
وجان أيف لودريان، في جولته اللبنانيّة الثالثة التي انتهت أمس، وباعتراف أعتى منتقدي الدور الفرنسي، لم يحقق الإخفاقات التي كانت متوقعة، بل تمكّن من فتح كوة في الإستحقاق الرئاسي، من خلال تعميم قناعة كاملة في لبنان، بأنّ مرحلة الأبواب الموصدة انتهت مع إسقاط التبنّي الفرنسي لترشيح سليمان فرنجيّة بما يتقاطع مع إرادة داخلية وخارجية، وأن مرحلة الأبواب المفتوحة بدأت من أجل إيجاد السبيل الأنجع للوصول الى تفاهم أكثري على شخصية أخرى.
وهذا يعني أنّ الطبخة الفرنسية في لبنان تأخذ وقتًا طويلًا ولكن “الشيف” ماكرون صبور جدًّا!