حاليًا نصف القوى العاملة تعمل تقريباً إما من المنزل كلياً أو وفق أنماط هجينة[من المكتب والمنزل]، وقد كثرت الأمور الموضوعة على المحك وبدأ كثيرون بالتساؤل عن تداعياته الصحية. والآن أصبحت بين أيدينا مجموعة من الأبحاث التي تشرحها لنا.
يقول نيل غرينبرغ، أستاذ الصحة النفسية وعلم النفس الوظيفي والقضائي في جامعة كينغز كوليدج في لندن الذي شارك في كتابة استعراض شامل نشرته مجلة الصحة الوظيفية العلمية في عدد ديسمبر (كانون الأول) 2023: “شكل العمل من المنزل أمراً جيداً بالنسبة إلى بعضهم، إذ تمكن هؤلاء من إدخال بعض عناصر المرونة إلى حياتهم والتنزه سيراً على الأقدام خلال موعد الغداء أو اصطحاب أولادهم من المدارس- ونعلم كذلك بأن الإنتاجية ازدادت بصورة عامة”.
ويضيف: “لكن ذلك تحقق على حساب عدم معرفة حدود العمل، والعمل لفترات أطول من دون أي استراحة وكذلك خلال عطل نهاية الأسبوع وفي ساعات غير مخصصة للعمل أو حتى عند الشعور بالمرض بعض الشيء. على اختلاف النتائج وتنوعها، كشفت بعض الدراسات عن وجود آلام عضلية هيكلية ونشاط أخف وزيادة في الجلوس وفي العزلة الاجتماعية”.
فوارق بين الأجيال
يُعتقد بأن جيل طفرة المواليد (Boomers) و”جيل إكس” الذي تلاه ربما واجها صعوبات أكبر في العمل عن بعد. ويقول غرينبرغ: “ربما وجد الأفراد الذين قضوا 30 عاماً من حياتهم في ركوب القطار أو القيادة نحو مكان العمل صعوبة أكبر في التكيف من أولئك الذين اعتادوا أسلوب حياة أو عادة الاعتماد بصورة كبيرة على الاتصالات والتكنولوجيا عن بعد في جوانب مختلفة من الحياة اليومية، مثل الجيل الأصغر”.
في الواقع، يفيد نحو سبعة من كل عشرة من أبناء “الجيل زد” الآن عن سعادتهم ورضاهم عن وظائفهم على رغم شعورهم بالضغط النفسي. كما شعر أكثر من ربع (29 في المئة) أبناء الجيل زد بصلة أكبر بنظرائهم ومديريهم من خلال المراسلة الإلكترونية مقابل اللقاءات المباشرة أو عبر الفيديو. وشرح غرينبرغ أن “الأجيال الأصغر سناً كانت لديها روابط اجتماعية أكثر عن بعد قبل الجائحة، لذلك وجدت سهولة أكبر في مواصلة استخدام هذه الوسائل عند العمل من المنزل مقارنة بمن تخطوا سن الـ40 والذين يحتاجون إلى تواصل أكبر وجهاً إلى وجه”.
لكن إن وضعنا مسألة الإنتاجية والمرونة جانباً، فلقد تكبدت صحتنا النفسية والجسدية بعض الأثمان. على سبيل المثال، طلب العاملون في المملكة المتحدة أيام عطل مرضية أكثر في م 2023، بمتوسط 7.8، بزيادة عن 5.8 قبل الجائحة – وأكثر من أي وقت آخر في العقد الأخير. فكيف تأثرنا إذاً بالعمل من المنزل وأنماط ال عمل المختلط؟
تغييرات في النظام الغذائي
ليس من المفاجئ أن يفيد العاملون من المنزل عن استهلاك مزيد من الطعام. وتقول نيكولا لدلام-راين، استشارية التغذية المتخصصة في جراحة السمنة “في غالبية الأحيان، يعمل الأشخاص من داخل المطبخ أو صالة الطعام، غالباً على مقربة من الثلاجة. ألاحظ ميلاً لدى مرضاي لتناول الوجبات الخفيفة والأكل المتواصل طوال اليوم، فيما يعملون خلال استراحة الغداء”.
ووجد استطلاع أجري باستخدام برنامج الرصد في تطبيق MyFitnessPal على ألفي بريطاني يعتمد نمط العمل المختلط أن 60 في المئة منهم زعموا بأنهم صحيون أقل في أيام العمل من المنزل، ويتناولون خمس وجبات خفيفة بين الوجبات الرئيسة (مقابل ثلاث فقط في المكتب) ويستهلكون 800 سعرة حرارية أكثر. وتضيف لدلام- راين: “أخبرني كافة المرضى المصابين بالسمنة تقريباً بأن وزنهم ازداد بعدما بدأوا بالعمل من المنزل ولم يتمكنوا أبداً من خسارة هذا الوزن… إن العمل في المكتب يمنحك تنظيماً وتظهر بعض الدراسات أنك تتناول كمية أقل من الطعام. عندما يراك الجميع، لن تقصد المطبخ كل دقيقتين”.
وتنصح لدلام-راين باتباع أنماط منظمة لتناول الطعام وترك ثلاث ساعات في الأقل بين الوجبات أو الوجبات الخفيفة، وكذلك محاولة العمل في مكان لا يمكن رؤية ا لطعام أو الثلاجة منه.
إما الممارسة أو الخسارة
عندما تعمل من المنزل، تخسر النشاط العرضي الذي تقوم به في المكتب. قد يمنحك ذلك مزيداً من الوقت لكي تمارس تمارين رياضية جدية لكن ما يحدث هو أنه يزيد سلوكات قلة الحركة (الجلوس لفترات طويلة من الوقت).
وجد استعراض منهجي نُشر في المجلة الدولية للأبحاث والصحة العامة في سبتمبر (أيلول) 2022 أن العمل عن بعد زاد سلوكات قلة الحركة بمعدل 16 في المئة، كما خفض النشاط البدني الإجمالي إلى النصف تقريباً. وتقول لدلام-راين “غالباً ما أسأل مرضاي ‘كم خطوة سرت اليوم’؟“. لكن ما توصل إليه بحث تطبيق MyFitnessPal هو أن عدد الخطوات التي سارها الأفراد كانت أقل بـ 3500 خطوة بالمعدل من تلك التي يسيرونها في المكتب. “عندما يعمل الأشخاص من المنزل غالباً ما يقل عدد الخطوات التي يسجلونها ليكون ألفين أو حتى بالمئات. وهذه قلة حركة خطرة”.
لا يصعب فهم النتيجة التي يسفر عنها هذا السلوك- إذ أفادت دراسة كينغز كوليدج عن زيادة وزن نحو نصف العاملين من المنزل (46.9 في المئة). كما أن فرداً من كل ستة في الفئة العمرية دون الـ45 انتقل إلى خانة السمنة أو الوزن الزائد بعد الانتقال للعمل من المنزل، وفقاً لدراسة واسعة النطاق أجرتها جامعة ليستر. قلصوا هذا الخطر عبر حرصكم على الخروج من ا لمنزل لمدة تعادل الساعة، والأفضل أن تسيروا أو تركبوا الدراجة الهوائية أو تهرولوا خلال ساعات النهار لأن هذا النشاط يساعد على ضبط ساعتكم البيولوجية ويحسن نومكم وهذا أساسي بالنسبة إلى خسارة الوزن، كما تقول لدلام-راين. ثم خصصوا 10 دقائق للحركة والراحة كل 90 دقيقة.
الشعور بالألم
ازدادت آلامنا الجسدية على مستوى الشعب كاملاً. يعاني ثلاثة من كل 10 منا أوجاعاً في الظهر خلال العمل، وقد طُلب 8 ملايين يوم عطلة مرضية العام الماضي بسبب آلام الظهر، كما ورد في تقرير جديد لشركة فيزيو المختصة بالعلاج الفيزيائي عبر الإنترنت. ولم تميز الدراسة بين العاملين من المنزل أو المكتب، لكن أربعة من خمسة أشخاص بدأوا العمل من المنزل خلال الإغلاق أبلغوا عن معاناتهم آلاماً في الرقبة والكتفين أو في الظهر. كما وجدت دراسة حديثة أكثر أن مستخدمي الحاسوب معرضين أكثر بمرتين إلى ثلاث مرات لهذه الإصابة. وتقول كارين بيتي، المعالجة الفيزيائية السابقة للفريق الأولمبي البريطاني والمسؤولة عن القسم العضلي الهيكلي في مجموعة “فيتا هيلث”: “على رغم توافر النصائح المتعلقة بهندسة بيئة العمل بصورة تناسب الإنسان، يفتقد عدد كبير من الناس إلى مساحة مناسبة للعمل في المنزل وقد يجلسون ويعملون على الأريكة أو طاولة المطبخ لفترات طويلة، مما قد يؤدي إلى تصلب المفاصل والإصابة بآلام في الظهر. وقد يعاني كثيرون ممن يتخذون الوضعية المثالية في الجلوس آلاماً في الظهر لأنهم يجلسون فترات طويلة بكل بساطة”.
على مستوى العين
يقضي الأشخاص الذين يعملون من المنزل فترات أطول أمام الشاشات، ويعملون مدة أطول من دون أي استراحة كما يعملون بصورة متزايدة خلال عطل نهاية الأسبوع وفي الأمسيات وفقاً لاستعراض غرينبرغ. فلا عجب إذاً، أن يُصاب فرد من كل ثلاثة يعملون من المنزل بإجهاد في العين عند نهاية كل يوم، كما كشفت دراسة لشركة “فيجن دايركت” Vision Direct.
وتقول الدكتورة كلير أودونيل، رئيسة قسم البصريات في مجموعة مستشفيات العيون التخصصية “أوبتيغرا” إن “استخدام الأجهزة الإلكترونية الرقمية لأكثر من ساعتين متواصلتين ربما يؤدي إلى إجهاد العين. والأعراض التي تظهر على سطح العين مثل الاحمرار ناجمة عن الرمش مرات أقل- إذ لشدة تركيزنا على الشاشة، ننسى أن نرمش بعيوننا بالوتيرة المطلوبة. ومن الممكن أن يؤدي ذلك إلى جفاف العين وضبابية الرؤية واحمرار العين وإرهاقها وازدواج الرؤية، إضافة إلى أوجاع الرأس وآلام عضلات الرقبة والظهر وصعوبة التركيز”.
ومن العوامل المسهمة في هذه الحالة تقليص تنافر لون الأحرف مقارنة بخلفية الشاشة، كما وهج الشاشة ونسبة الانعكاس فيها، إضافة إلى وجود الشاشة على مسافة غير مناسبة أو في الزاوية الخطأ، والإضاءة السيئة وعدم الرمش كما يجب. ماذا يمكنك أن تفعل إذاً؟ ربما تساعد الشاشات المضادة للتوهج في تقليص نسبة الضوء الذي تعكسه الشاشة ومن الأفضل استخدام الخط الداكن اللون المقروء بوضوح على خلفية فاتحة اللون.
وتضيف أودونيل: “عليكم الجلوس بوضعية مستقيمة إلى المكتب أو الطاولة ووضع الشاشة على بعد نحو 20 إنشاً من العين (بزاوية أدنى من العين بقليل). عدلوا نسبة إضاءة الشاشة بحيث يتوافق الضوء المنعكس من الشاشة مع ذلك المحيط بكم في مكان العمل. وتذكروا قاعدة الثلاث عشرينات: خذوا استراحة لمدة 20 ثانية في الأقل كل 20 دقيقة ودعوا نظركم يسرح في نقطة تبعُد 20 قدماً في الأقل. تساعد هذه الحركة على إعادة تركيز العين والرمش والاستراحة من الشاشة”.
الشعور بالوحدة
تعتمد حدة شعوركم بالعزلة والوحدة عند العمل من المنزل على شخصيتكم (قدر التفاعل الاجتماعي الذي تحتاجون إليه لكي تشعروا بالسعادة) وأسلوبكم في العمل (سواء احتجتم إلى التعاون مع الآخرين لكي تؤدوا مهماتكم أو لا) وسنكم، وفقاً لاستعراض غرينبرغ. وكشف الاستعراض عن أن العاملين من المنزل معرضون بصورة أكبر للشعور بالاكتئاب - والوحدة من العناصر المسهمة في هذه الحال- ويميلون أكثر إلى العمل أثناء المرض، مما قد يزيد كذلك أعراض الاكتئاب.
وتقول سوت إي وونغ، أستاذة الاتصالات والإدارة في كلية إدارة الأعمال النرويجية بي آي Bi Norwegian Business School، إنه حتى بوجود أفضل التكنولوجيات وأحدثها، يتواصل العاملون من المنزل بصورة أقل مع الآخرين. “قد تجرون أحاديث عشوائية عن مشروع معين، لكن هناك كذلك كثيراً من التفاعلات غير المتعلقة بالعمل لكنها تساعدنا على أن نفهم زملاءنا ومنظمتنا كما البيئة التي نتحرك فيها”. قد تدور هذه الأحاديث حول مختلف القضايا، بدءاً بأي فكرة عشوائية رماها أحدهم في المطبخ إلى ثرثرة مع بائع القهوة في الطريق إلى العمل حول فيلم شاهدتموه. وتقول “هذه تفاعلات إنسانية ضرورية للسلامة العقلية، لا سيما إن كان الإنسان يعيش وحده”.
وهو ما تسميه وونغ “العزلة المهنية” ويمكن أن تسوء بسبب انتشار برامج دعم وخدمات جديدة مصممة لتسهيل العمل عن بعد. “بعض الأشخاص يتواصلون مع الآخرين عبر الرسائل النصية المكتوبة لكن غيرهم شفويون أكثر وربما يخف تفاعلهم عبر أدوات التواصل الرقمية، مقارنة بزملائهم. وفي النهاية، يشعرون بأنهم مقصيون ومضغوطون أكثر، لا سيما إن اعتبروا أنهم لا يستخدمون هذه الأدوات بالصورة المناسبة”. من منا لم يعرف شعور الاستسلام عند ضرورة استخدام برنامج اللوح الرقمي Miro boards وتمنى استعمال الورق والأقلام القديمة من فترة المدرسة؟ “قد لا يتمكنون من تقديم أفضل إسهام إبداعي يقدرون عليه عندها”.
في الحق يقة، لفتت دراسة رائدة نشرت في مجلة “نايتشور” العلمية في ديسمبر الماضي أن العمل عن بعد قد يؤثر سلباً في الابتكار. حللت الدراسة 20 مليون مقالة بحث و4 ملايين طلب حصول على براءة اختراع من الـ50 عاماً الماضية ووجدت أن أفراد الفرق التي تعمل عن بعد “تتوصل باستمرار بصورة أقل إلى اكتشافات كبيرة مقابل نظرائها الموجودين في موقع العمل”.
وتقول وونغ إن “التعاون المباشر والشخصي مهم بالنسبة إلى الإبداع. إن كنت تعتمد نمط العمل المختلط، أحرص على الالتزام بأيام العمل نفسها من المكتب ومن المنزل، وإن كنت منظمة، حاولي أن تجعلي موظفيك جميعاً يعملون من المكتب في الأيام نفسها. هذا أفضل أسلوب بالنسبة إلى التفكير الإبداعي”.
خمس طرق لكي تنجح في هذا الصدد
نصائح من كاري كوبر، أستاذ علم النفس التنظيمي والصحة في كلية إدارة الأعمال في مانشستر حول الحرص على استفادتكم القصوى من مكان العمل الجديد:
أنظر إلى شخصيتك وعملك. لو كنت شخصاً اجتماعياً تقتضي مهنته التحدث إلى الآخرين، فالعمل عن بعد أو حتى المختلط ربما لا يناسبك.
تحكم بتنظيم مساحة عملك بصورة أكبر. تظهر الدراسات أن زيادة سيطرتك على ظروفك وتسييرك لها شخصياً يزيد من سعادتك. وهذا ينطبق على الحرص على هندسة بيئة العمل بما يناس بك كما على تفضيلك لطريقة عملك.
عندما تكتشف ما تحتاج إليه لكي تزدهر في العمل (من حيث نسبة العمل من المنزل إلى العمل من المكتب، أو عدد فترات الاستراحة أو موعد بداية العمل ونهايته)، تحدث مع صاحب العمل لكي توضح له أفضل الطرق التي يمكنك أن تعمل وفقها.
استغل مرونة العمل عن بعد لكي تقوم بتمارين رياضية وتأخذ استراحة كل ساعة وتتناول طعاماً صحياً أكثر وتتواصل بصورة منتظمة مع الآخرين.
دع الآخرين يرونك جيداً. لم نثبت هذه النقطة بعد عبر الأبحاث، لكن ربما يوجد خطر بألا يحصل الذين يفضلون العمل المرن ومن المنزل على ترقيات بقدر الأشخاص الذين يفضلون العمل من المكتب، لمجرد أنهم خارج مجال الرؤية. أحرص على أن يراك الآخرون، سواء إلكترونياً، أو شخصياً، وأن يستمعوا إلى أفكارك.