جاءني، مرةً، مَنْ كان صديقي وأغرقني بالأسئلة عن مدى صحّة تورط أحد معاوني سياسي لبناني كبير ب”فساد هائل”، فوضعتُ بتصرّفه ما أملكه من معلومات. وبعدما تأكّد من أنّ فساد هذا المعاون السياسي قد مكّنه من امتلاك ثروة، قال لي و”لمعة الذهب” تملأ عينيه: “والآن، قُلْ لي من يمكنه أن يوصلني إليه، فأنا أحتاجه، فهو مفتاح ضروري في نجاحي المهني. أريده أن يشاركني”. لم يصعقني مَنْ كان صديقي بطلبه هذا، بل جعلني أقتنع، أكثر وأكثر، بأنّ “احترام اللص” جزء لا يتجزّأ من ثقافة كثيرين في بلادي، والنجاح في”الإفلات من العدالة” لا يحتاج من مرتكب الجرائم بحق الصالح العام إلى جهد عظيم! ومنذ ذاك اللقاء مع مَنْ كان صديقي رحتُ أتابع عن كثب طريقة تعاطي المجتمع مع أطراف ملف انفجار مرفأ بيروت، بحيث بدا ظاهرًا أنّه في مقابل إهمال لا مثيل له للمحقق العدلي طارق البيطار، هناك حفاوة كبيرة بجميع من يشتبه بتورطهم في التسبّب بهذه الكارثة اللبنانيّة، الأمر الذي أعاد بعضهم إلى المجلس النيابي في الإنتخابات الأخيرة، ولم يمنع بعضهم الآخر من تلميع اسمه في المنتديات الإعلامية والدبلوماسية والدينية ويعد نفسه بلعب أدوار رائدة في مستقبل لبنان.
ولا يقتصر هذا السلوك الإحتفائي بمن يفترض بهم أن يكونوا في قفص الإتهام على فئة معيّنة في لبنان بل هو يسحب نفسه على الجميع، حتى باتت مدوّنة السلوك اللبنانية تقوم على عنوان عريض: متّهمي قديس وقديسك شيطان!
وعليه، فإنّ “اليأس” من إمكان ملاحقة المتورطين الذين ينتمون الى فئة المقتدرين سياسيًّا وسلطويًّا وطائفيًّا وماليًّا، مهما كانت فداحة الجريمة التي ارتكبوها، بات كبيرًا حتى لا يُقال حتميًّا!
وهذه الحقيقة اللبنانيّة المرّة يدركها المجتمع الدولي، ولهذا فهو يتعاطى مع ما وصفه بأنّه أكبر انفجار غير نووي في العالم، بانتهازيّة كبيرة! وعليه، وعلى الرغم من إدراكه بأنّ التحقيق اللبناني في انفجار مرفأ بيروت لن يُتاح له أن يصل الى الحقيقة المبتغاة، أسقط الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من مبادرته تجاه لبنان مطلب تشكيل لجنة تحقيق دولية في هذه الجريمة. وعليه أيضًا، لم تبادر النيابة العامة في باريس، على الرغم من تحركها فور ثبوت سقوط ضحايا يحملون الجنسية الفرنسية، في انفجار المرفأ، من اتّخاذ أيّ خطوة قيّمة، على خلاف ما فعلته النيابة العامة المالية في فرنسا، بموضوع الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة!
ولم يُحرّك ما يعاني منه المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار من “اضطهاد” أيّ ساكن في الدول المعنية بملف لبنان، على الرغم من أنّها تملك الأدوات القانونية التي تخوّلها تحويل حياة المشتبه بهم الى جحيم في حال ثابروا على عرقلة التحقيقات، مثل إصدار مذكرات توقيف دولية ضدّهم، تبعًا لقرارات البيطار، على غرار ما كان قد حصل سابقًا، في موضوع اغتيال الرئيس رفيق الحريري، علمًا أنّ المتهمين في ملف الحريري لم يكونوا ممّن يسافرون ويعقدون اجتماعات ويقدّمون نصائح، على خلاف ما هي عليه وضعية بعض المشتبه بهم في ملف المرفأ.
وحتى تاريخه، لم يتم التعاطي دوليًا مع ملف انفجار مرفأ بيروت ، وفق ما يستحق من اهتمام، فبقي، كما هي عليه الحال في بياني البرلمان الأوروبي و”خماسية الدوحة”، مجرّد عصا تُرفع في وجه معرقلي العملية السياسية في لبنان لعلّهم يرتدعون، وهم، بطبيعة الحال لن يفعلوا، لأنّه سبق أن أثبتوا أنّهم أقوى من العدالة، لأنّ من لا يملك قدرات تنفيذ قراراته، يتلاشى كالصوت في الفضاء، أو كالإستنكار في مواقع التواصل الإجتماعي أو كدموع التماسيح في إطلالات إعلاميّة، أو كالمباني التاريخية في الجميزة بعد إعصار النيترات!
هل نيأس؟
اليأس لا يليق بالشعوب مثله مثل التفاؤل، لأنّ صناعة الغد لا علاقة لها بالرهانات السلبية أو الإيجابيّة بل بالعزم والإصرار والمثابرة!