تسفي برئيل- هآرتس
إن رفح ليست مجرد موقع جغرافي، ولا مجرد مدينة يكتظ فيها نحو مليون إنسان ونصف المليون، أو مجرد معسكر لـ”حماس” فيه كتائب متأهبة للقتال (كما يقولون لنا). كما أن رفح ليست مجرد وادٍ للموت المتوقع لآلاف الرجال، والنساء، والمسنين، والأطفال، بل أيضاً صارت الآن قيمة مُؤَسِسَة في القاموس القومي الذي يرسّم هوية دولة إسرائيل بصفتها دولة متفوقة، ومنتصرة، ويمكنها أن تضمن سلامة مواطنيها، واستعادة أسراها، إذا ظلّوا أصلاً على قيد الحياة.
وليس تأييد اجتياح رفح أو رفْضه مجرد خلاف عسكري أو استراتيجي يُبتّ فيه وفقاً لمعايير عسكرية باردة. لقد أصبحت رفح هي الجادة التي تصطف على جانبَيها المعسكرات السياسية والأيديولوجية الإسرائيلية. وقد تحول تأييد احتلال رفح إلى سمة أيديولوجية يمينية تعتبر أن الدولة أهم من شعبها، ولا فرق هنا في الأمر بين اليمين إذا كان متعصباً، ومسيانياً، من أتباع سموتريتش أو بن غفير، وبَيْنَه إذا كان يمينا باهتاً و”تقليدياً”، وربما عقلانياً، كيمين الجوقة التي تؤيد نتنياهو. ففي قضية رفح، يقف اليمين واحداً موحداً، وترتفع فوق معسكره راية الوعد الأجوف؛ “النصر المؤزر”. رفح هي “الجبل” في نشيد بيتار [فريق كرة قدم يُعد جمهوره الأكثر عنفاً وتطرفاً ويمينية في إسرائيل]، الذي يقول فيه الجمهور: “نموت أو نحتل الجبل.” ويقف في مقابل هذا المعسكر معارضون لا يرمزون فقط إلى الضعف، واليسارية، والخيانة، والاستعداد للتخلي عن مصير مواطني إسرائيل كلها في مقابل الإفراج عن نحو 20 إلى 30 مختطَفاً، بل أيضاً يخضعون للتجميد الأميركي.
ويمثل هؤلاء عصارة الخوف اليهودي، ومَن هم مستعدون لأن يظلوا ضحايا، ولم يستخلصوا أي عبرة من المحرقة النازية. وهذا التراجع، الذي يمارسه هؤلاء، عن الالتزام المقدس بالمحافظة على إسرائيل يعني تحطيم صمود الصهيونية في وجه العماليق، وهو استعراض صادم للضعف القومي، وكارثة رافقت الأمة وستظل معها، كما هو حال كارثة الانسحاب من غزة [سنة 2005]، وكالتوقيع على اتفاقيات أوسلو، وإخفاق 7 تشرين الأول/أكتوبر.
علينا أن نعترف أن اجتياح رفح لم يعد، منذ وقت طويل، تردداً بين معضلة ما إذا كان سيؤدي إلى إطلاق سراح جميع المختطَفين، أم إذا كان جميع هؤلاء أو معظمهم سيُقتلون خلال المعارك، إنما صار يعني وقوفاً صامداً على الجهة الصحيحة من التاريخ اليهودي.
لكن عقيدة “النصر القومي المؤزر” السخيفة التي تتطلب احتلال رفح ليست سوى ورقة توت رقيقة يصعب أن تغطي القيمة السياسية العليا؛ وهي قيمة بقاء الحكومة على الكرسي، وتحتها تبقبق تصريحات بن غفير الذي قال: “لقد حذّرتُ رئيس الحكومة من أنه إذا قررت إسرائيل، لا سمح الله، عدم اجتياح رفح، أو إذا قررت إنهاء الحرب، أو تم عقْد صفقة خاسرة، فإنني أعتقد أن رئيس الحك ومة يدرك جيداً ما الذي سيعنيه ذلك.” وها قد أدرك رئيس الحكومة وفهم، وقرر أيضاً أي حرب عليه خوضها.
ثم جاء إعلان “حماس” موافقتها على المقترح المصري لوقف إطلاق النار، وهي مُوَافَقَةٌ لا يزال يكتنفها هي الأُخرى الغموض، لتقلب الطاولة على نتنياهو وبن غفير معاً.
وهكذا، صار المسار الآمن الذي خطط له نتنياهو لضمان سلامة حكومته متورطاً بأزمة وجودية لا تهدده وحده، بل أيضاً تهدد دولته كلها. فهل عليه مواصلة الحرب والمخاطرة بما تبقّى من العلاقات مع الولايات المتحدة والعالم الغربي بأسْره، ومعاهدات السلام مع مصر والأردن، وإمكانات التوصل إلى اتفاقية لوقف إطلاق النار على الحدود الشمالية، تضمن عودة عشرات الآلاف من المواطنين المهجَرين إلى منازلهم، وتضمن إطلاق سراح المختطَفين، أم إن عليه أن يطبّق وعده الذي قطعه أمام بن غفير وسموتريتش، رغماً عن أنوف جميع مواطني الدولة، وهكذا، يحبس الجيش ودولة إسرائيل في رفح؟
لا يحتاج قرار نتنياهو إلى تخمين، والآن من واجب الشعب الإسرائيلي بأسْره إحباطه.