يعقوب عميدرور - معاريف
يحمل إحلال تنظيمات جهادية سنّية محل النظام العلوي ذي الطابع العلماني في سورية إمكانات لتغيير ربما يكون له تأثير كبير في مستقبل الشرق الأوسط. وتُعد هذه اللحظة بالنسبة إلى الأغلبية السنّية في سورية لحظة شعور بالنصر بكل تأكيد، وذلك لأن هناك فئة قليلة من السنّة أحبوا حُكم النظام العلوي، لكن يجب النظر إلى الأمر باعتباره تغييراً أوسع نطاقاً [من مجرد تغيير في الطائفة الحاكمة].
لنبدأ بأكبر الخاسرين، ويبدو أن هناك ثلاثة في مقدمة هؤلاء، وَهُم: إيران، وحزب الله، وروسيا.
أولاً؛ إيران، وهي التي أنشأت محوراً تعزز بالتدريج، يمتد من طهران إلى البحر الأبيض المتوسط، مروراً بالعراق الذي يخضع لنفوذها، وسورية التي تعتمد عليها لبقاء النظام، ولبنان حيث يسيطر حزب الله، الذي قامت ببنائه وتمويله وتسليحه. وقد تم تدمير هذا المحور، وبالتالي، فستواجه إيران صعوبة في تسليح الحزب الذي أُضعف في لبنان.
كما أنها فقدت، عملياً، قدرتها على تكبيد إسرائيل الأذى عبر حدودها الشمالية، وهو ما يتركها مكشوفة أمام مواجهة مباشرة مع إسرائيل من دون أي دعم من وكلاء قريبين من إسرائيل (إذ تم تدمير جزء آخر من قدرتها على إيذاء إسرائيل في غزة). وقد تلاشى حلمها بمحور شيعي يصلها بالبحر الأبيض المتوسط ويشكّل جزءاً أساسياً من حلقة النار حول إسرائيل.
وعلاوة على ذلك، فإن حزب الله، الذي أصبح ضعيفاً في لبنان، يمكن أن يصير هدفاً إضافياً للتنظيمات السنّية التي تسيطر على سورية، إذ إن لديها ثأراً دموياً مع التنظيم الشيعي الذي قاتلها بوحشية في سورية. لكن هناك أمراً أعمق هنا؛ فإيران، في لحظة الحسم، فشلت في تقديم الدعم إلى حزب الله، الذي تلقى ضربة قاسية جداً في الحرب ضد إسرائيل، كما فشلت في حماية النظام السوري الموالي لها، والمعتمد عليها. وهذا الفشل الإيراني يتردد صداه في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وخصوصاً في العالم العربي الذي خشي إيران على مر التاريخ.
إيران دولة جدية؛ ستدرس الوضع، وتستخلص العبر، وستبحث عن نقاط ضعف جديدة في المنطقة (ربما الأردن)، وستحاول العمل انطلاقاً منها، ولن تتخلى بسهولة عن حلمها بسبب الحال السائد المتردّي.
هل سيكون للفشل الإيراني المدوّي صدى أيضاً في شوارع طهران، بحيث يتحرك مواطنو إيران لتغيير النظام الفاشل؟ من الصعب الجزم بالأمر، لكن من الواضح أن هناك حجراً تزعزع في جدار الحُكم الإيراني، الأمر الذي جعله أكثر عرضة للانهيار. إن معرفة أن استثماراً هائلاً من المال والدم على مدى 40 عاماً على حساب حاجات الشعب الإيراني، ضاع هباءً بصورة مهينة للغاية، قد يكون لها القدرة على تغيير المفاهيم، حتى في أواسط الإيرانيين أنفسهم.
بوتين سيفقد مرونته
ثانياً؛ روسيا، وهي ا لخاسر الآخرَ، وبوضوح. لقد خسر فلاديمير بوتين بصورة مهينة موطئ قدمه الوحيد في الشرق الأوسط، وذلك بعد وقت قصير من إثبات العملية الإسرائيلية في إيران عجْز أنظمة الدفاع الروسية المضادة للطائرات، ناهيك بأن روسيا استثمرت أموالاً ليست بالقليلة في سورية، لكنها أيضاً ذهبت سدى، وربما تؤدي هذه النتيجة السيئة إلى تصلب مواقف بوتين حيال أي محاولة للتفاوض بشأن أوكرانيا، إذ إن الفشل ليس نقطة ارتكاز جيدة لتقديم التنازلات أو إبداء المرونة في الدول الديكتاتورية التي تملك كبرياء.
وإذا حاول حُكم الجهاديين في دمشق تصدير أفكاره، فإن الأردن سيواجه مشكلة كبيرة؛ إذ أظهرت الانتخابات الأخيرة، مرة أُخرى، أن هناك نواة متعاطفة مع الأفكار الإسلامية بين الأردنيين. كما أن تصدير أفكار الإسلاميين من النظام السنّي إلى العراق، الجار الشرقي لسورية، يمكن أن يشكل مشكلة حقيقية أيضاً للحكومة العراقية التي تعتمد على الشيعة (وهم المجموعة السكانية الأكبر في العراق).
والمستفيد المباشر من هذا الحدث هو تركيا، التي نظمت وسلحت ودعمت المعارضة للقتال ضد نظام الأسد. وهذا النجاح يتماشى مع الرؤية العثمانية والإسلامية للحكومة التركية الحالية، التي بذلت جهوداً كبيرة لتوسيع دائرة النفوذ التركي في العالم العربي (حيث توجد قوات من الجي ش التركي اليوم في كل من قطر والصومال وليبيا). وإن وصول التنظيمات المدعومة من تركيا إلى هضبة الجولان يمكن أن يزيد الاحتكاك والتوتر بين إسرائيل وتركيا، التي تعادي إسرائيل بشدة، لكنها حتى الآن لم تواجهها بصورة مباشرة.
إن تعزُّز دور تركيا في الإقليم سيمكنها من استهداف الأكراد، وخصوصاً في سورية، الذين يُعتبرون اليوم حلفاء للولايات المتحدة في حربها ضد “داعش” في شرق سورية، وسيضع النهج التركي العدواني هذا التحالف في وجه اختبار صعب، وهو ما سيجبر الإدارة الأميركية الجديدة على اتخاذ قرار معقد. أمّا تخلي الولايات المتحدة عن الأكراد، مما سيتيح لتركيا ضربهم بقسوة، فإنه سيُضعف في الوقت ذاته موقف الولايات المتحدة في المنطقة من حيث كونها قوة لا تقف إلى جانب حلفائها الذين ضحوا بدمائهم في تعاون طويل الأمد مع الجيش الأميركي.
انفراجات وتعقيدات
بالنسبة إلى إسرائيل، يحمل الوضع الجديد انفراجاً كبيراً، لكنه ينطوي على مخاطر غير واضحة في المستقبل؛ فاستبدال نظام الأسد بنظام معادٍ لإيران وحزب الله سيجعل من الصعب جداً إعادة تسليح التنظيم، الذي ربما سيضطر إلى استثمار موارده للدفاع عن مصالحه ضد سورية السنّية، والتي لدى نظامها الجديد حساب دموي مع إيران وحزب الله.
يبدو أن تهديد حزب الله لإسرائيل سيتراجع كثيراً في ظل الوضع الجديد، وسيزداد ضعفه، وربما يكون ذلك فرصة لإسرائيل لتقويض قوته بصورة أكبر. ومع ذلك، فإن حُكم تنظيمات، ينتمي جزء مهم منها إلى القاعدة و”داعش”، لا يبدو مشهداً باعثاً على التفاؤل بالنسبة إلى ما يتعلق بمواصلة المواجهة مع سورية الجديدة، وخصوصاً في هضبة الجولان.
وبناءً عليه، فسيكون من الضروري الاستعداد للدفاع عن هضبة الجولان واستخلاص العِبر من هجوم المعارضة على سورية في عهد الأسد، وتطبيق هذه العِبر على خطوط التماس الإسرائيلية. وتشبه هذه الدروس، إلى حد كبير، الدروس المستقاة من هجوم حركة “حماس” في 7 تشرين الأول/ أكتوبر. ولهذا السبب، فإن الجيش الإسرائيلي يقوم بتدمير شامل للوسائل القتالية التي تشكّل تهديداً، والتي كانت في حوزة الجيش السوري، كي لا تقع في أيدي النظام الجديد، الذي لن تكون عداوته لإسرائيل مفاجأة لأحد.
ومع مرور الوقت، ربما يتحقق الانفراج في جانب ما (المواجهة مع حزب الله) قبالة تعقيد في موضع آخر (هضبة الجولان). لذلك، يجب متابعة التطورات في سورية بانتباه شديد، والعمل ضد التهديدات في مراحلها المبكرة، فلدى إسرائيل مصالح أُخرى في المنطقة، وبعضها مرتبط بسلوك سورية الجديدة؛ ولعل إحدى المصالح الأهم تتمثل في المحافظة على استقرار الأردن، الذي يملك أطول حدود مع إسرائيل، إذ إن تصاعُد التطرف الإسلامي يمكن أن يزعزع البلد، ويضع أمام إسرائيل تحديات ليست بالسهلة.
ومن الممكن أن تتصل هذه المصلحة برغبة إسرائيل في ضمان سلامة الدروز في سورية، الذين يتمركز معظمهم في جبل الدروز جنوب شرقي هضبة الجولان. كذلك، تُعتبر الأقلية الكردية في الشرق عاملاً يجب على إسرائيل أن تأخذه في الحسبان عند التفكير في مستقبل سورية. إن توفير حماية أفضل للدروز، ودعم الأكراد، وربط ذلك بتقديم المساعدة إلى الأردن، كلها أمور تمثل تحديات يجب على إسرائيل تلبيتها، إلى جانب جهودها لضمان الهدوء في هضبة الجولان، وهي جهود تُعد ذات أولوية قصوى.
صحيح أن الوضع في سورية غير مستقر، لكن من الواضح أن المحور الشيعي الذي بنته إيران على مدار أكثر من جيل قد انهار الآن، وينبغي علينا عدم السماح بتشكيل محور سنّي تكون سورية في قلبه، وهو محور لديه القدرة على التسبب بأضرار غير قليلة لإسرائيل.