يمكن أن ينطبق ما تشهده غزة في فلسطين اليوم على الغوطة الشرقية بريف دمشق قبل خمس سنوات تقريباً، فالقاسم المشترك بين المنطقتين هو الحصار واستخدام القوة العسكرية المفرطة ضد مدنيّيها، وحالة التيه التي رافقت الأهالي ودورانهم في حلقة مفرغة يحيط بها الموت المحتّم، والأهم من ذلك هو الصمت الدولي عن مآسي الشعبين.
كلانا ينتظر طريقة موته
في خيمته المتطرّفة ضمن مخيم الكمونة بريف إدلب شمال غرب سوريا، يتابع الحاج “مصطفى العموري” أخبار الحملة الهمجية الإسرائيلية على غزة، وبمشاعر باردة يتفاعل مع أخبار القصف والموت التي تنقلها وسائل الإعلام غير متفاجئ بقسوة المشاهد، فهو الذي خَبر وعاين كل تلك المواقف خلال وجوده في الغوطة الشرقية، وعلى مدار أكثر من خمس سنوات قبل أن يتمّ ترحيله قسرًا إلى شمال سوريا، نيسان/ إبريل 2018، ككثير من الأسر السورية المناهضة لميليشيا أسد.
في حديثه لأورينت، يستحضر “العموري” ذاكرته ويعود إلى أوجّ الحصار في الغوطة الشرقية حينما كانت تفتقر الجغرافية هناك لأدنى مقومات الحياة، وفوق ذلك تتعرض لقصف عنيف من الميليشيات الطائفية المحاصِرة لمحيطها بالكامل.
“تملّكتني مشاعر متناقضة بعد حدوث مجزرة المشفى الأهلي في غزة، وسقوط 500 ضحية دفعة واحدة دون أن يتحرك الضمير العربي، فقد أعادني المشهد إلى العام 2013 عندما استخدمت ميليشيا الأسد السلاح الكيماوي ضد المدنيين وقتلت أكثر من 1200 ضحية”، يقول العموري، مضيفاً، “لقد ظننا أن هذه المجزرة ستضع حدّاً لإجرام النظام، لكننا كنّا مخطئين، بل زاد إجرامه أكثر فأكثر، وسط صمت دولي كما يحصل الآن في غزة نسخة طبق الأصل”.
يمثّل العموري صاحب الـ 68 عاماً جزءاً من التاريخ الشفوي السوري في المخيمات السورية التي تعيش واقعاً قريباً من واقع غزة، فقذائف ميليشيا أسد وغارات الاحتلال الروسي تتوالى عليهم بين الحين والآخر، كما إن شحّ المساعدات الإنسانية وتدهور القطاع الطبي والصحي والمعيشي أبرز ما بات يلازم يومياتهم.
يوضح العموري أن “بشار الأسد طفل إسرائيل المدلّل، فرغم تركنا ديارنا وذكرياتنا وبساتيننا إلا أنه ما يزال يصرّ على ملاحقتنا بإجرامه لأنّه وكيلٌ لهم بقتل السوريين، وهم متكفّلون بقتل الفلسطينيين أينما حلّوا.. “نحن والفلسطينيون نجهل كيف سنموت أو متى نقضي تحت الركام اختناقاً”، يختصر العموري الحال المأساوي للتغريبة السورية والفلسطينية.
لعنة الجغرافية
تشكّل مساحة قطاع غزة 365 كم مربع، أي ما يزيد بثلاثة أضعاف عن مساحة الغوطة الشرقية، وتشترك معها في الاتجاه، فكلاهما يقع في الجنوب الغربي، ويتمتعان بكثافة سكانية عالية، كما انتشرت فيهما عدة فصائل عسكرية متعددة المشارب ومناهضة لآلة القتل سواء ميليشيا أسد في سوريا وقوات الاحتلال بفلسطين، فيما ترتبطان بمعابر خارجية تتحكم بمواردهما.
أما الوجه الأخير المشترك الذي ما زال معلّقاً، هو حملات التهجير التي خبرها مدنيّو الغوطة الشرقية باتجاه الشمال السوري، وحالة الترقّب الحذر للغزّيين من سيناريوهات محتملة لعمليات ترحيل قسري، بعد القصف العنيف الذي يتعرض له القطاع.
حسب “المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان”، فإن القصف الانتقامي لعملية “السيف الحديدي” التي أطلقتها إسرائيل للردّ على “طوفان الأقصى” وصلت شدته إلى “ربع قنبلة نووية”، وهو ما دفع آلاف العائلات في القسم الشمالي للقطاع لإخلاء منازلهم والاتجاه جنوباً بعد صدور أوامر الإخلاء، وسط الحديث عن غزو برّي إسرائيلي لاجتياح القطاع.
وللمفارقة فقد كان نائب وزير الخارجية الإسرائيلي السابق، داني أيالون، قد قال: إن إسرائيل ستهجّر الفلسطينيين كما هجّر الأسد السوريين، داعياً مصر لاستقبالهم عندها في صحراء سيناء، وبناء المخيمات لهم ومدّها بالماء والكهرباء على غرار مخيمات اللجوء السورية.
وفي الوقت الذي ترفض فيه مصر السماح للفلسطينيين الفارّين من الحرب دخول أراضيها، وتصرّ على بقائهم في غزة، يبقى احتمال الترحيل وارداً أمام شدة الآلة العسكرية على المدنيين، وهو ما يزيد من تعقيدات الوضع خاصة أن الفلسطينيين قد خبروا دروس التهجير منذ 1948، كما إنهم ليسوا بعيدين عن التجربة السورية وما تبعها من فقدان السوريين حقوق المواطنة ومصادرة ميليشيا أسد أراضيهم وممتلكاتهم، وعيشهم ضمن ظروف إنسانية وأمنيّة واجتماعية متدهورة ضمن مخيمات متناثرة في الداخل والخارج، والأهم من ذلك هو تحويلهم لورقة ضغط سياسية تتلاعب بها الأطراف الإقليمية الفاعلة.
نموذج الترحيل السوري
في مقارنة أجراها الناشط السياسي “نزار الصمادي”، بين غزة ومسقط رأسه الغوطة، خلص إلى أن استخدام العنف المفرط والتدمير والحصار الجائر والقتل الممنهج في غزة يأخذنا إلى ما حصل في الغوطة الشرقية قبيل التهجير من حيث اتّباع نفس أسلوب ميليشيا أسد في استهداف المشافي والبنية التحتية والحصار المطبّق وقطع موارد الطاقة والغذاء ومنع إدخال المساعدات الإنسانية، وترويع الأهالي والقصف الممنهج بالتدريج للبلدات، ثم دفع الأهالي للتهجير على دفعات لاقتلاعهم من جذورهم باتجاه الشمال السوري وبلدان الجوار.
وسيبقى هذا القصف والقتل مستمراً طالما أن المجتمع الدولي وأمريكا والدول المتحكمة تؤيد هذا الكيان المغتصب، دون مبالاة بعدد القتلى والمجازر، وهو ما حصل مع الشعب السوري عندما وقف المجتمع الدولي نفسه مع المجرم بشار الأسد، ولا سيما عند استخدامه السلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية، وفقاً للصمادي.
ويتوقّع الصمادي أن يتعمّد الاحتلال الإسرائيلي تقطيع أوصال غزة بالتدريج والسيطرة على كل جزء، ليبدأ بعدها بتهجير كل جزء بعد التفاوض معه، مع الأخذ بعين الاعتبار إخراج الفصائل العسكرية في سيناريو مشابه للسيناريو اللبناني عندما تم تهجير قيادات فلسطينية إلى تونس، متسائلاً في الوقت نفسه عن الدور المصري في ذلك والثمن الذي يمكن أن يقبضه رئيس النظام هناك لا سيما مع ملاحظة وجود مجمّعات سكنية فارغة في سيناء تمّ بناؤها مسبقاً، ما يعني الاتجاه نحو تدوير مخططات سابقة.
اورينت