منذ سبعة أشهر، تشكّل مراسم تشييع أشخاص قتلوا في التصعيد بين إسرائيل وحزب الله، الفرصة الوحيدة لسكان ميس الجبل الحدودية لزيارة قريتهم المدمّرة على ضوء هدوء موقت ينسقه الجيش اللبناني مع القوات الدولية.( أ.أف.ب)
تبدو ميس الجبل أشبه بساحة معركة. فوق أنقاض مبنى، رُفعت لافتة كتب عليها “لن تُكسر إرادتنا”. وتضمّ البلدة المواجهة لمنطقة المنارة في شمال اسرائيل عددا كبيرا من مؤيدي حزب الله الذي نعى سبعة مقاتلين على الأقل من أبنائها من إجمالي 303 مقاتل قضوا منذ بدء تبادل إطلاق النار بينه وبين الجيش الإسرائيلي بعد اندلاع الحرب في قطاع غزة في السابع من تشرين الأول.
أما سكانها النازحون بمعظمهم فيستغلّون الهدوء النسبي الموقت الذي يسجّل خلال مراسم تشييع لتفقّد منازلهم والإتيان بأغراض لم يفكّروا بحملها معهم عندما هربوا تحت وطأة القصف الإسرائيلي، من دون أن يدركوا أن غيابهم عن منزلهم سيطول كل هذا الوقت.
أمام ركام منزله الذي لم ينج منه إلا خزان مياه بلاستيكي، يقول عبد العزيز عمار (60 عاماً) لوكالة فرانس برس “البيت سوّي بالأرض”، موضحاً أن “منازل أهلي وأخي وابن أخي دمّرت كلياً”.
ويضيف على هامش مشاركته الأربعاء في تشييع مقاتل من حزب الله قضى بنيران إسرائيلية “كان المنزل يعني لنا كثيراً وكان فسيحاً مع مساحات مريحة للأطفال” في الخارج، مضيفا أن طفلته الصغيرة تسأله دائماً “اشتقت للمنزل، متى سنعود إليه؟“.
بعد أسبوعين من بدء تبادل القصف عبر الحدود بين حزب الله وإسرائيل، نزح عمّار مع عائلته الى الضاحية الجنوبية لبيروت، معقل حزب الله.
ويقول “يأتي الشخص الى القرية للمشاركة في تشييع، ولا بدّ أن يستغلّ الفرصة للاطمئنان الى منزله لإلقاء نظرة عليه، وإذا لم يكن مدمّرا، لأخذ أغراض يحتاجها في مكان إقامته”.
وأوضح متحدث باسم القوات الدولية الموقتة في جنوب لبنان لفرانس أن الجيش اللبناني يبلّغ اليونيفيل بمواعيد التشييع ومكانها، وتُعلِم هي بدورها الجيش الإسرائيلي لتأمين بعض الهدوء في المنطقة.
“الكل هدف”
وشاهد مصوّر لفرانس برس عشرات المنازل المهدمة كلياً أو جزئياً في القرية ومؤسسات متضررة.
ويقول عبد العزيز بتصميم “عندما نرى شباناً يقدّمون أرواحهم، لا نسأل عن الحجر”.
على مرأى من نقاط عسكرية في الجانب الإسرائيلي، يشارك غالبا مئات من أهالي البلدات والقرى الحدودية في تشييع القتلى، وغالبيتهم من مقاتلي حزب الله الذي ينظّم مراسم عسكرية و يرفع راياته ويردّد عناصره ومناصروه هتافات الولاء له، بينما طائرات الاستطلاع الإسرائيلية لا تفارق الأجواء.
في ميس الجبل، شقّ موكب التشييع الأربعاء طريقه بين منازل مدمرة ومحال تبعثرت مقتنياتها. وشاركت نسوة متّشحات بالسواد في التشييع. ووضع عدد منهن رايات حزب الله الصفراء حول أعناقهن، وحملن صور “الشهيد”.
بعد التشييع أو قبله، يستغلّ السكان الهدوء المفترض لجمع ما أمكنهم من مقتنيات منازلهم أو حتى مؤسساتهم التجارية.
أمام منزل مدمّر جزئيا، امتلأت شاحنة بمقتنيات نجت من القصف بينها غسالة وعربة طفل ودراجة نارية وكراس بلاستيكية.
ويقول عبد العزيز عمار “بغض النظر عمّا إذا كنت أحمل السلاح أم لا، فإن مجرّد وجودي في بلدتي يعني أنني هدف أمام الإسرائيلي”، مشيراً الى مقتل أربعة مدنيين من عائلة واحدة خلال الشهر الحالي.
وليس الهدوء مضمونا دائما خلال التشييع، وفق ما يقول سكان.
في الخامس من الشهر الحالي، قتل مدني مع ابنيه (21 و12 عاماً) وزوجته بضربة إسرائيلية في ميس الجبل، بينما كانت تقام مراسم تشييع.
ونقل تقرير إخباري محلي عن أفراد عائلة القتيل أنه كان استغلّ الهدوء المفترض خلال التشييع وأحضر شاحنة لإخراج سلع وبضائع من محل تجاري يملكه، لكنه قتل مع عائلته.
14 ألف منزل
وتقول إسرائيل إنها تستهدف بنى تحتية ومقرّات تابعة لحزب الله، لكن آلاف الوحدات السكنية تضرّرت جزئياً أو كلياً، وفق السلطات اللبنانية، في القصف الإسرائيلي.
وتعدّ القرى والبلدات الملاصقة للحدود مثل ميس الجبل والضهيرة وعيتا الشعب من المناطق الأكثر تضرراً. ولا يتمكّن الصحافيون من الوصول بسهولة الى هذه المناطق بسبب التصعيد المستمر. وقد قتل وأصيب صحافيون في قصف إسرائيلي خلال تغطيتهم النزاع في مناطق حدودية.
ويقدّر مجلس الجنوب، وهو هيئة رسمية مكلّفة مسح الأضرار، عدد “المنازل المهدّمة كلياً بـ1700 منزل”، تضاف إليها “14 ألف منزل متضرر”.
ومنذ سبعة أشهر، تخطّت قيمة الأضرار التي لحقت بالمباني والمؤسسات مليار دولار، وتلك التي طالت مرافق البنية التحتية 500 مليون دولار، وفق المصدر ذاته.
وتقول السلطات اللبنانية إن المسح النهائي للأضرار لا يمكن أن يحصل إلا بعد وقف إطلاق النار، علما أن عملية دفع التعويضات دونها شكوك في بلد غارق بأزمة اقتصادية خانقة منذ أكثر من أربع سنوات.
وأسفر التصعيد عن مقتل 419 شخصا على الأقلّ في لبنان، بينهم 82 مدنياً مدنيا، وفق حصيلة أعدّتها وكالة فرانس برس استنادا إلى بيانات الحزب ومصادر رسمية لبنانية.
ويقول خليل حمدان (53 عاماً) الذي نزح من ميس الجبل الى بلدة شقرا البعيدة عن الحدود، خلال مشاركته في التشييع، “هذا الدمار لا يقدّم ولا يؤخّر، طيلة حياتنا نقدّم الشهداء وسنواصل البناء. نتحمّل كلّ المآسي وسنعود ونقف مجدداً على أقدامنا”.