"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث

عبد الواحد لؤلؤة / بينهم شخصيات مثل المتنبي والحلاج وبونابارت: عن سقوط الكبار

الرصد
السبت، 1 أبريل 2023

تذكُر كتب التاريخ كثيراً من الأمثلة عن سقوط شخصيات كبيرة في عالم السياسة أو الأدب من مواقع عالية كانوا يحتلّونها، فإذا بهم يسقطون عنها بسبب يتعلق بالشخصية نفسها أو بأصحاب الحلّ والعقد في هذا المجال أو ذاك. وبمجرد سقوط تلك الشخصية تبدأ التعليقات من كل حدب وصوب، هذا يبارك والآخر يتحسّر على فقدان شخصية كان يُنتظر الخير كلّه على يديها.

وفي تراثنا العربي لدينا مثال شيخ المتصوفة في العصر العباسي، الحلاّج (858-922) الذي كان له أتباع كثيرون من أصحاب الفلسفة الذين كانوا يرون في تفكيره ما لم يكن في متناول الكثيرين من المشتغلين بالفكر الديني. اتُّهم الحلاّج بالزندقة والتجديف، إذ رُوي عنه انه قال: «أنا الحَق» وهذه الصفة من أسماء الله الحُسنى. فقد كان يقول: «كلما نظرتُ إلى إنسان أو شيء رأيتُ الله فيه». وهذا كلام ليس من السهل فهمُه أو استيعابه، لذا حُكم عليه في القرن الرابع الهجري في عهد الخليفة المُقتدر، فصُلِب بقطع الرأس والتمثيل بجثته، بتُهمة الحلول والزندقة، وثار بعد إعدامه كثيرٌ من الخلاف حول فلسفته. لكن بعض المستشرقين يعدّون الحلاّج بطلاً ثورياً في فكره. وللحلاج شعر كثير يصوّر آراءه الفلسفية، لا أحسب الكثير منا في هذه الأيام بقادرٍ على فهم ولا استيعاب هذه الأشعار. وأذكر أن زميلا ًلي في سبعينات القرن الماضي كان أستاذ فلسفة، قضى سنة من التفرع العلمي في جامعة هارفرد يشتغل على مخطوطات فيها قصائد للحلاج، أخرجها في كتاب بعنوان «بحر السلسلة» وطلب مني أن أترجم هذا الكتاب إلى الإنكَليزية، فقبلتُ التحدّي على مضض، ورحتُ أنقل كلاماً لا أفهمه، فوقعتُ في شرِّ أعمالي، لأن أستاذ فلسفة أمريكي بجامعة بوستن عَلِم من زميلي أستاذ الفلسفة بترجمتي للكتاب، وراح يسألني أسئلة عن القصائد التي لا أفهمها أساساً، ولا أدري كيف استطعتُ التخلّص من تلك الورطة التي دخلت فيها بكل طيبة قلب.

وفي التراث الإنكَليزي لدينا مثال سر والتر رالي 1552- 1618الفارس، الشاعر، الدبلوماسي، المُكتَشِف في «العالم الجديد» الذي جمع ثروة كبيرة من ذلك العالم الذي لم تطأ قدماه أرضَه. كان رالي مُقرّباً جداً من الملكة اليزابيث الأولى (1533-1603). ولكن يقال إن ثمة أحد الحسّاد أو المنافسين قد أسرَّ إلى الملكة ما أقنعها بأن الرجل ينوي لها شرّا َبسبب علاقاته مع إسبانيا الكاثوليكية التي كانت تسعى إلى تغيير الملكة وتعيين بديل يُعيد إنكَلترا إلى الكثلكة، فحُكم على رالي بالسجن وأُلقي في برج لندن أي قلعة لندن، ثم أُطلق سراحه وأُعيد سجنه مرةً أخرى في البرج نفسه. وبعد وفاة الملكة اليزابيث خَلَفها الملك جيمز الأول، الذي ما لبث حتى حَكم على رالي بالخيانة وألقاه في البرج ثم حكم عليه بالإعدام. لكن الأخبار والآراء حول صعود رالي وسقوطه كانت موضع خلاف شديد بين معاصريه. ويمكن أن تكون تلك الأسباب شخصية أو تحزّباً دينياً أو سياسياً. والملاحظ أن في كثير من الأحوال يكون الشخص الذي يصعد، بسرعة في الغالب، في المنصب السياسي أو الإداري، هدفا للتقوّلات والتنقيب عن الأصل والفصل والعلاقات الخاصة لذلك الشخص، لتكون أساسا لتشكيل تهمة جاهزة عند سقوط تلك الشخصية الإدارية أو السياسية.

وقد يكون سقوط الكبير بسبب غلطة كبرى في مسيرته، نتيجة الثقة الكبرى بنفسه وبما يعمل. ولنا في مسيرة نابوليون بونابارت (1769-1821) مثال على ذلك. فبعد عدد من الانتصارات في القارة الأوروبية وخارجها، كان نابوليون يطمح أن يكون إمبراطور العالم بأكمله، لأنه لم يخسر معركة واحدة في بداية مسيرته، ولو أنه انسحب أمام أسوار عكا المنيعة، ولكنه لم يحسب ذلك خسارة. ففي مصر كان يفاخر بأنه عاد يحمل حجر رشيد فاستطاع العلماء فك رموز الكتابة الهيروغليفية ودراسة تاريخ مصر الفرعونية، وهو إنجاز كبير فعلاً. ويبدأون المصريين لم يجدوا في نابوليون غازياً فاتحاً مستعمراً، لأنه كان يهتم بالثقافة وبحضارة مصر القديمة. قال شاعر مصري: «قالوا لنابوليون ذات عشيّةٍ/ إذ كان يرصد في السماء الأنجما: من بعد فتح الأرض ماذا تبتغي؟ / فأجاب أنظر كيف افتتحُ السما».

بهذا الاندفاع والحماسة أقدم نابوليون على غزو روسيا عام1812 وكانت تلك غلطته الكبرى التي أدّت إلى هزيمته بعد ذلك في وترلو في قلب البلاد الأوروبية، وذلك في عام 1815.

لم يكن نابوليون يتخيل الخطر الكبير في مهاجمة بلاد يكون الثلج الدائم فيها أشدّ قوةَ من جيوشه البشرية التي ليس لها خبرة في محاربة الثلوج. وقد أدى ذلك الانكسار وما تبعه مما أثار القوى الأوروبية مثل بروسيا وانكَلترا ضده فأُلقي القبض عليه ونفي إلى جزيرة سانتا هيلينا حيث توفي بسرطان المعدة عام 1821.

تقول العجائز في بلادنا: «غلطة العاقل كبيرة». وكان طموح نابوليون الذي فاق الحدود البشرية هو الذي أدّى إلى سقوطه في النهاية. وهنا لا نجد الناس في الغالب يلومون نابوليون على خساراته اللاحقة في معارك تجمّع فيها عليه جيوش بلاد عديدة في أوروبا، بل إن بعضهم، ربما بتعصّب فرنسي، يجد في اندفاعات نابوليون شجاعةً «وطنية» هي مبعث فخر لا ملامة.

ولا يفيد التأسّف والحزن شيئا ًعند القول إن أكبر العقول وأبرز الشخصيات ليست بمنأى عن الانزلاق في خطأ قاتل ينزل بالشخصية الفذّة من عليائها إلى مهاوي الضياع. والمثال الذي لا يمكن نسيانه هو حالة أكبر شاعر عربي، المتنبي (915-965). لقد بدا هذا الشاعر الكبير حياته فقيرا في الكوفة إلى الجنوب الغربي من بغداد. ويروى أنه في صباه مرّ ببائع بطيخ فسأل عن سعر البطيخة لكن البائع انتَهره قائلا هذا ليس طعامك ولا قدرة لديك لشرائه. فانصرف الفتى حزينا وأقسم أنه سوف يحصل من المال ما يعينه على شراء البطيخ! هذه الرواية، إن صحّت، تدلّ على علوّ هَمّة المتنبي وسعيه الحثيث على امتداد مسيرته في الحصول على المال إلى حدّ السؤال: «أمولاي هل في الكاس فضل أناله؟/ فاني أغني منذ حين وتشرب» هذه مذلّة عند كبير النفس المتنبي تستعيد المذلة التي وجهها إليه بائع البطيخ!

لكن المتنبي بقي عزيز النفس لا يتنازل للرد حتى على حاسديه ممن كان يسعى ضده عند سيف الدولة إلى درجة ان بعضهم قد اشاعوا انه قد مات أو قتل فكان رده: كم قد قتلت وكم قد مت عندهم / ثم انتفضت فطار القبر والكفن قد كان شاهد موتي عند بعضهم/ جماعة ثم ماتوا قبل من دفنوا ما كل ما يتمنى المرء يدركه / تجري الرياح بما لا تشتهي السَفَنُ.

ولكن، ولكن… عندما يزل المرء حتى وان كان كبيرا فإن زلته غلطه لا تغتفر لأنها قاتلة. كيف يتنازل كبير مثل المتنبي فينزعج من شخص اسمه ضبّة وهو اسم لا يوحي بالاحترام ولا بالأهمية، فيهجوه هجاء مقذعا بلغة دونها لغة السوقة والطعام: ما أنصف القوم ضبة / وأمه الطُر طبّة… وكانت النتيجة المباشرة ان أرسل المهجو بعض الأشرار فاعترضوا طريق الشاعر وابنه محسّد في «دير العاقول» العاقول ونبات الشوك الأخضر الذي لا يأكله سوى الأبل، والمنطقة هي النعمانية كما يذكر العارفون. فقاتل المتنبي وابنه حتى تغلب عليهما الجمع الكبير من عصابة فاتِك وهو ضبة ولو ان الباحثين قد اختلفوا حول الاسمين ولكن المصيبة قد وقعت فخسر الشعر العربي قامة كبيرة يعرفها «القرطاس والقلم» والسبب زلة لسان كبيرة هي قاتلة عند الكبير.

القدس العربي

المقال السابق
يوآف ليمور / بقصفها مواقع في سوريا.. إسرائيل لإيران: هذه رسالتنا لمن يلعب بالنار

الرصد

مقالات ذات صلة

حزب الله مثلما عرفناه لم يعد موجوداً

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية