"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث

عبد الله الحيمر/ الخيال الوحشي للطاغية في خطاب العبودية الطوعية

الرصد
الثلاثاء، 4 أبريل 2023

عبد الله الحيمر/ الخيال الوحشي للطاغية في خطاب العبودية الطوعية

«لا يكفي أن نولد وحريتنا معنا، بل يجب علينا أيضا أن نحميها» إتيان دي لابويسيه

إن الإسقاط المعاصر على هذه النبوءة الاستشرافية «لخطاب العبودية الطوعية» التي كتبت قبل حوالي خمسة قرون من زمننا المعاصر لمستقبل الإنسانية. جديرة بالتدريس والتمعن في دروسها الأخلاقية والسياسية في فلسفة العبودية الطوعية، وفك شيفرة خطابها العميق عن الحرية.

تعد صرخة الكاتب إتيان دي لابويسيه (1530/1563) القادم من أسرة أرستقراطية، وكان والده من رجال الكنيسة المهتمّين باللاهوت والأدب، والمولع بالشعر والأدب رغم دراسته للقانون، عميقة في خطابها التحرري ومسألة الذات الإنسانية في جوهرها النضالي ضد الطغيان والظلم والتوحش. ويعد كتابه «خطاب العبودية الطوعية» من أهمّ أعماله إن لم تكن الوحيدة التي اشتهر بها خلال حياته القصيرة التي لم تتجاوز 33 عاماً. جاء في أحد فقراته: «إن الحيوان لا يتنازل عن حريته إلا بعد دفاع مستميت، لكن الإنسان يفعل ذلك بسبب الحاجة أو الخوف أو غياب الوعي». من هنا تتولد شرعية أسئلة إعادة بناء ذات في ظل تزييف الوعي والعبوديّة الطوعية عنده، إلى البحث عن جواب سؤال وجودي أمام السلطة الحاكمة: ما هو مفهوم العبودية الطوعية؟ كيف تتكون وتصنف؟ وما هي أسباب الخلاص منها؟

مفهوم العبودية الطوعية

الكاتب عاش في زمن فرنسي مضطرب سياسيا في بدايات القرن السادس عشر، ملكية فاشلة، وراثية خلقت لنفسها قداسة سماوية مزيفة. رسخت سلطة طاغية واستبدادية. أدخلت فرنسا بحروف فاشلة مع جيرانها إيطاليا وسويسرا، وأشبعت الشعب الفرنسي بخطابات المؤامرة الأجنبية وشعارات الدفاع عن الوطن، وهو أسير الفقر والجهل والاعتقالات والتضييق. في خضم هذه المآسي والأحداث كان شاب يتيم وطالب قانون لامع في جامعة (أورليون) هو إتيان لابويسيه يؤسس لخطابه النوعي عن مفهوم الحرية في مفهومها الإنساني، أن يعيش الإنسان كمواطن يتمتع بمواطنيته الشرعية، دون أن يكون له سيد وأسياد. ولا يخضع لإرادة أحد، ولا يسمح لأحد باستعباده، يتمسك بحريته باعتبارها القيمة الإنسانية الوحيدة التي تستحق التضحية في سبيلها، لأن البشر في نظره يفقدون حياتهم بفقدانهم لحريتهم، فالوجود الإنساني دون حرية ليس أكثر من حالة بهيمية في أحط مستوى. وبخلاف مكيافيلي في كتابه» الأمير» الذي قدم فيه إرشادات للأمير تساعده في التسلط على الرعية والحفاظ على ملكه، فإن الكاتب دي لابويسيه كتب هذا الخطاب ليعلم الناس أهمية الحرية والحفاظ عليها. يقول في ذلك: «إن العيون التي يترصد بها السيد أتباعه، إنما هي التي يمنحونه إياها، والأيدي التي تنهال عليهم بالضرب لا يأخذها إلا من بين صفوفه، لا سلطة لسيّدهم عليهم إلا بهم، لذا يغدون في كل يسر شركاء اللص الذي يسرقهم والمجرم الذي يقتلهم، لم تُستعبد الشعوب إلا لأنها استسلمت للفساد وقبلت بالاستغباء». يعرّف لابويسيه العبودية الطوعية باعتبارها السلوك الجبان الذي يرضى به المستعبد، وهو يظن أنه يحقق الاستقرار ورغد العيش لنفسه وأسرته بارتهانه للآخر، دون أن يفكر بأنه عبر هذا السلوك قد بادل أفضل ما يملكه وهو الحرية بأسوأ ما يملكه الآخرون وهو التسلط، فالناس هم الذي يقدمون المبررات لاستعبادهم، دون أن يفكروا ولو للحظة واحدة أنهم أورثوا العبودية لهم ولذريتهم، وحولوا أبناءهم إلى وقود لحروب الطاغية. ويرى في خلق الإله للإنسان المتساوي مع الآخرين، ميزة ودليلا على أن لا أحد أفضل من أحد، فلكل إنسان يدان وعينان ورأس، والكل متساو مع الآخر من حيث الخلق، والطاغية المستبد لا يملك أكثر من ذلك، لكنه يملك الرغبة بالتسلط، في ما يملك الآخرون الاستعداد للاستعباد، وهذه هي المشكلة في غياب روح الحفاظ على الحرية، معتبراً أن ولادة البشر أحراراً غير كافية، إذ ينبغي عليهم القتال للحفاظ على هذه الحرية، لأن التراخي في التمسك بالحرية الفردية يحيل الفرد إلى عبد ذليل. ويرى في العبودية الطوعية سلوكاً انتهازياً ترافقه رغبة طمع وتحقيق مكاسب ما، لكن هذه المكاسب، وغالباً ما تكون تافهة، لا توازي أبدا الثمن المدفوع لأجلها، وهو الحرية، وقد سميت هذه المقالة في بعض الفترات التاريخية باسم (رسالة ضد الفرد) لأن الكاتب ركّز فيها على الرغبة في الخضوع لدى الآخرين، وإذا كان قد أدان الملوك والمتسلطين، فإن إدانته للأفراد تبدو أكثر وأشد عنفا، لأن المؤلف يرى أن الذليل لا يمكن أن يكون ذا فائدة في شيء مهم، ويعتبر استغراب البعض من هزيمة جيوش كبيرة أمام مجموعات صغيرة غير مفهوم، لأن المقاتل الذي يقاتل في سبيل حريته والحفاظ عليها من الممكن أن يقتل، لكن من الصعب أن يهزم، لأنه يعرف عن ماذا يقاتل، بينما الآخر يعرف أنه أرسل ليقاتل في سبيل شيء لا يعرفه لذلك تكون هزيمته سريعة، لأن لا شيء هناك يدعوه للدفاع عنه.

يرى لابويسيه أن مقاومة البؤس والقهر لا تمر عبر القتل والعنف، لأن عبودية الشعوب عبودية طوعية، فهم الذين يقتلون أنفسهم بأنفسهم، وهم الذين بخضوعهم الطوعي للظلم والاستبداد يشوهون الطبيعة البشرية المجبولة أصلا على الحرية والانعتاق. سيتخلص الناس من العبودية الرهيبة باستعادتهم لطبيعتهم الحرة الأصلية، التي سوف تؤدي إلى التحول الكبير في الحياة السياسية، والتي بدورها ستجعل الإنسان الفاعل الأوحد في المجال السياسي القائم على إطار دستوري تعاقدي حر. يضرب أمثلة كثيرة من تاريخ اليونان (انتصار أثينا على إسبرطة رغم عدد جيشها القليل). يضيف أن هناك عاملين مهمين يخدمان قضية العبودية الطوعية وهما: الدين والخرافات، فهو ينظر للدين كأداة في يد السلطة الملكية للتأسيس والاستئثار بالسلطة.

تصنيف المستبدين

وصنّف الكاتب المستبدين إلى ثلاثة أصناف: الأول يحكم لأن الشعب قد انتخبه، والثاني انتزع المُلك بقوة السلاح، والأخير جاءه المُلك بالوراثة. أما الذين اغتصبوا السلطة بقوة السلاح فيتصرفون بها كأنهم في بلاد قاموا بغزوها. وأما الذين ولدوا ملوكا فليسوا على العموم أفضل مطلقا، فالذين ولدوا وترعرعوا في حضن الطغيان، يرضعون الطغيان طبيعيا مع الحليب، وينظرون إلى الشعوب الخاضعة لهم نظرتهم إلى عبيد بالوراثة. ويتصرفون بالمملكة وفقا لطبعهم الغالب ـ بخلاء كانوا أم مبذرين ـ مثلما يتصرفون بإرثهم. أما الذي تأتيه السلطة عن طريق الشعب فيبدو لي أن عليه أن يكون محتملا أكثر. وأعتقد أنه يمكن أن يكون كذلك لولا أنه ما أن يرى نفسه مرفوعا أعلى من الجميع حتى يساوره الغرور بفعل ذلك الذي يطلقون عليه اسم العظمة، فيصمم على أن لا يتزحزح عن مقامه. ويعتبر على نحو شبه دائم أن القوة التي منحه الشعب إياها ينبغي أن ينقلها إلى أبنائه. والحال أن العجيب في هؤلاء أن تراهم فور تبنيهم هذه الفكرة كيف يتجاوزون في كل ألوان الرذائل، بل حتى في صنوف البطش كل الطغاة الآخرين. ولا يجدون من وسيلة لضمان طغيانهم الجديد ما هو أفضل من نشر العبودية وتعميمها، وبذل كل قوة لاستبعاد أفكار الحرية من رعاياهم، ما يؤدي إلى محوها من ذاكرتهم مهما يكن العهد بها قريبا.

إن الذات الإنسانيّة جوهرها الحرية والديمقراطية، والوعي العضوي، والانتصار لقيم الكرامة الاجتماعية والعدالة العرقية. ورفض الذل الطوعي وسلوكياته المشينة.

ينتشر الداء السياسي في ظلِّ حكمِ طاغية ما انتشارا ضمن طبقات متعاقبة، فيتقرب إلى المستبدّ خمسة من الطامعين أو ستة، ليصيروا متواطئين مع مطالبه تواطؤا مباشرا، لكن هؤلاء الستة ما يلبثون أن يصيبوا بالعدوى ستمئة من الأشخاص السلسي القيادة أو ذوي المنافع الكبرى، ليعود هؤلاء فيصيبوا ستة آلاف من المتزلّفين الطامعين… وهكذا حتى تصيب العدوى غيرهم من الطامعين الأذلاء. ورغم أن دي لا بويسيه لا يخفي كراهيته للطغاة، لكنه يوجه اللوم للناس الذين مكّنوا الطاغية من أن يصبح طاغية، عبر موافقتهم على ما ينفذه من سياسات وقبولهم ما يتبعه من أساليب لإدامة سلطته وتشديد قبضته عليهم.

كيف تتخلص الشعوب من الطغاة؟

يقول لابويسيه: «أيتها الشعوب المسكينة والبائسة والحمقاء، أيتها الأمم المكابرة في دائها والعمياء عن نعمتها، أنتم تتراخون فتدعون الأجمل والأنقى من رزقكم يختطف من أمامكم، فحقولكم تنهب وتسرق، وبيوتكم تعرى من الأثاث القديم الذي كان لآبائكم، وتعيشون على نحو لا يسعكم معه الزهو بأنكم تمتلكون شيئا. يبدو أنكم إذا ترك لكم نصف ممتلكاتكم، ونصف عائلاتكم، ونصف حياتكم، تعتبرون ذلك سعادة كبرى». وفي علاجه للعبودية الطوعية يرى أن الأمر يبدأ من تهديم قاعدة «هرم التسلط» الذي هو السلسلة التي تجعل الحاكم في قمته معبودا من طرف الرعية في قاعدته، أما ما بينهما فهم خدم البلاط ورجال الدين والإعلام والمستفيدون من الوضع، والذين هم على تماس مباشر مع عامة الشعب. لهذا يرى أن الحل يكمن في إعلان العصيان والتمرد والقطيعة مع هؤلاء، بشرط الشجاعة والإرادة الكاملة في تحمل كل العواقب لدفع الثمن كاملا، لأن الشعب الذي أوجد المشكلة يملك حلها بنفسه، ويكفي أن يسحب هو قاعدته من الملوك ليسقطوا تلقائيا، لأنه هو مصدر قوة هؤلاء الحكام أولا وأخيرا. مؤكدا للمجتمع الفرنسي في تلك الفترة، أن هذه المصيبة التي تحلق بكم ليست من صنيعة أعداء الوطن، بل من صنيعة عدو واحد عظمتموه إلى حد القداسة وتضحون بأرواحكم من أجل بقائه على رأس السلطة. قائلا في تجديد أوصاف هذا الطاغية: «أنتم تضعفون أنفسكم لجعله أقوى وأكثر صلابة في القبض بتمكن على حبل قيادكم. بوسعكم التخلص من تلك الموبقات الكثيرة التي لا تقوى البهائم على تحملها لو كانت تحس بها، بوسعكم التخلص منه إذا ما سعيتم لذلك. لا تسعوا إلى التخلص منه، بل أعربوا عن الرغبة في ذلك فقط. احزموا أمركم على التخلص نهائيا من الخنوع وها أنتم أحرار. أنا لا أريد منكم الإقدام على دفعه أو زحزحته، وإنما الكف عن دعمه فقط، ولسوف ترونه مثل تمثال عملاق نزعت قاعدته من تحته، كيف يهوي بتأثير وزنه فيتحطم..»

إن الذات الإنسانيّة جوهرها الحرية والديمقراطية، والوعي العضوي، والانتصار لقيم الكرامة الاجتماعية والعدالة العرقية. ورفض الذل الطوعي وسلوكياته المشينة. وهذا ما فعله هذا الكاتب بطرح إشكالية الوعي الحقوقي في سياق استنباط العقل لفكرة الحق الطبيعي بعيدا عن المفهوم الديني في استنباط المفاهيم الحاكمة للأخلاق والقوانين والنظم والقيم. يرى لابويسيه أن مقاومة البؤس والقهر لا تمر عبر القتل والعنف، لأن عبودية الشعوب عبودية طوعية، فهم الذين يقتلون أنفسهم بأنفسهم، وهم الذين في خضوعهم الطوعي للظلم والاستبداد يشوهون الطبيعة البشرية المجبولة أصلا على الحرية والانعتاق. وسيتخلص الناس من العبودية الرهيبة استعادتهم لطبيعتهم الحرة الأصلية، التي سوف تؤدي إلى التحول الكبير في الحياة السياسية، التي بدورها ستجعل الإنسان الفاعل الأوحد في المجال السياسي القائم على إطار دستوري تعاقدي حر. ويعطي المؤلف أهمية كبيرة لتربية الفرد، ويعتبر أن البعض يولد رقيقاً ويربى كذلك، ولا يعرف غير العبودية فهذا الشخص لا يفتقد شيئاً ولا يشعر بعبوديته لأنه لم يعرف حالة أخرى، غير حالة العبودية الطوعية، التي تستولدها الطبائع المشوهة والعقول المستقيلة والأرواح الخاملة، والخاضعة وغير المساومة على حريتها. أما من ولد حراً، أو من امتلك العقل ليفكر، فلا يمكن له أن يرضى بالعبودية الطوعية أبدا.

القدس العربي

المقال السابق
في تحدّ للصين..رئيس مجلس النواب الأميركي سيلتقي رئيسة تايوان

الرصد

مقالات ذات صلة

حزب الله مثلما عرفناه لم يعد موجوداً

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية