استوقفتني في هذه الأيّام الحافلة بكل أنواع الكلام عن موضوع الصراع الإسرائيلي- الفلسطينين، بمناسبة الحرب المندلعة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري بين الدولة العبرية و”حركة حماس”، مقالة نادرة ومحاضرة فريدة!
المقالة هي للكاتب الإسرائيلي الشهير عالميًّا بسبب مؤلفاته التي غزت المنازل: يوفال هراري.
أمّا المحاضرة فهي للرئيس السابق لرئاسة المخابرات العامة السعودية والسفير السعودي السابق لدى الولايات المتحدة المعروف بمقارباته “غير الخشبيّة”: الأمير تركي الفيصل.
وقد نشرت صحيفة “هآرتس” الإسرائيليّة مقالة المؤرخ والإستاذ الجامعي الذي تعود جذوره الى لبنان، إذ إنّ والديه هما يهوديّان لبنانيّان هاجرا إلى إسرائيل في العام 1976، فيما شهد معهد بيكر للسياسات العامة على المواقف “المتفجّرة” للأمير السعودي.
لم يتخلّ لا هراري ولا الفيصل عن انتمائهما، بحيث سلّم الأوّل بأنّ من حق بلاده القضاء على “حركة حماس” بعد كل ما قامت به في غلاف غزّة ، ودافع الثاني عن حق الفلسطينيّين في مقاومة إسرائيل لأنّها تحتل أرضهم وتحول دون قيام دولتهم.
لكنّ المؤرّخ الإنساني والأمير السياسي نقلا النقاش إلى مكان أبعد بكثير من تهديات الحرب وأزيز الرصاص وصفير الصواريخ: صناعة المستقبل!
وقد استعان هراري من أجل ذلك بالتاريخ، فذكّر بميثاق الأطلسي الذي أصدره في 14 آب/ أغسطس 1941 كلّ من الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، حيث رسما فيه صورة زاهية لمرحلة ما بعد هزيمة النازيّة، بهدف إقامة سلام دائم وعادل.
ولفت إلى أنّ روزفلت وتشرشل أصدرا هذا الميثاق، على الرغم من أن الأعلام النازية كانت ترفرف فوق برج إيفيل في باريس والأكروبول في أثينا فيما كانت دبابات أدولف هتلر تتوجّه نحو موسكو وطائراته تدك لندن.
يومها، وفق هراري لم يقل روزفلت وتشرشل إنّ الأولويّة الآن للقضاء على النازية، بل اعتبرا أنّ من حق ملايين الناس أن يعرفوا من أجل ماذا يقاتلون ويضحّون ويُقتلون!
وطالب المؤرّخ الإسرائيلي الذي تُسمع كلمته في أرجاء العالم الحكومة الإسرائيليّة بأن تبادر الى الإقتداء بهاتين الشخصيّتين التاريخيّتين، وتقدّم للعرب في إسرائيل وللفللسطينيّين في الضفة الغربية وقطاع غزّة وللإسرائيليّين أنفسهم تصوّرًا عن المرحلة التي سوف تلي القضاء على “حركة حماس”، لأنّ من حق الجميع أن يعرفوا لماذا يضحّون ويُقتلون، على اعتبار أنّ إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل الحرب، لا يستحق كلّ ذلك!
في تعداده لما هي عليه الأوضاع حاليًا، بدا هراري متعاطفًا كليًّا مع عرب إسرائيل ومع الفلسطينيّين ومع جميع الإسرائيليّين الذين انتفضوا ضد “ديكتاتوريّة” حكومة بنيامين نتنياهو الأخيرة!
وتقاطع الأمير تركي الفيصل مع ما عدّده هراري من مآخذ على إسرائيل، قبل أن ينتقل الى إدانة “حركة حماس” التي أفسدت محاولات حقيقيّة كانت تقوم بها المملكة العربيّة السعوديّة من أجل إيجاد حلول حقيقيّة للمعضلة الفلسطينيّة.
وكما كان هراري قاسيًا مع الطاقم الحاكم في إسرائيل كان الفيصل قاسيًا مع “حركة حماس”، فأدان عمليّتها في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري لأنّها “أهدت أرضية أخلاقيّة لحكومة إسرائيليّة يتم تجنّبها ليس عالميًّا فحسب، بل من نصف الجمهور الإسرائيلي أيضًا، باعتبارها حكومة أوغاد وفاشيين، وأعطتها ذريعة لتطهير غزّة عرقيًا من مواطنيها، ولأنّها تواصل مع إسرائيل تقويض السلطة الفلطسينيّة، ولأنّها تخرّب محاولة المملكة العربيّة السعوديّة التوصل الى حل سلمي لمحنة الشعب الفلسطيني”.
وبالمحصلة، فإنّ هراري والفيصل، كلّ من موقعه، كان يجلد “الحاضر المجنون” من أجل صناعة “الغد العاقل”!
قد تكون الأرض خصبة هذه الأيّام لشعارات الكراهيّة والتحريض والغضب، على اعتبار أنّ لها جمهورًا واسعًا سواء لدى الإسرائيليّين والمتعاطفين معهم أو لدى الفلسطينيّين والمؤيّدين لهم، ولكنّ ذلك، مهما أنتج في منافسة على القتل والدمار، سوف يُبقي المنطقة في دوّامة التطرّف والحروب والتهجير والتفقير والقتل، الأمر الذي حاول المؤرّخ الإنساني والأمير المخضرم أن يُقدّما مخارج حقيقية له ومنه!
إنّ رائحة الدماء المتصاعدة من كل حدب وصوب قد تُفسد هذا التوجّه السلمي القوي، ولكنّ من يرغب بأن يعيش يومًا حياة تستحق اسمها في منطقتنا، ليس عليه إلّا أن يبقي عقله في الثلاجة، لأنّ المجانين الذين يهوون “سفك الدماء” لا يُفسدون الحاضر فحسب بل المستقبل أيضًا!