يجوز التعامل مع تظاهرات “حزب الله” على طريق المطار، باعتبارها حركة مطلبية، ذات طابع نقابي، تسعى للتأثير في مسألة سياسية حرجة عنوانها تنظيم وضبط العلاقات الثنائية بين دولتي لبنان وإيران التي شارك بعض مواطنيها في تلك التظاهرات وظهروا على شاشة التلفزيونات المحلية يهتفون ضد السلطة اللبنانية والجيش اللبناني، مثلما ظهروا أيضا في عدد من القرى الحدودية الجنوبية بصفة “متطوعين وصلوا الى لبنان حاملين تبرعات مالية خاصة من بعض المناطق الإيرانية وهم يقومون بانفاقها مباشرة على إعادة إعمار المنازل المدمرة والمتضررة في تلك القرى”، حسب شهاداتهم المذاعة على تلفزيون “المنار”، قبل أيام، بلغة عربية مكسّرة.
ليس جديداً أن يتصرف الحزب وجمهوره على هذا النحو “المدني” الذي يلامس حد الفتنة، إذا جاز التعبير، كصاحبِ قضية، يطالب بما يعتبره حقوقاً ماليةً، مرصودة له من القيادة الإيرانية، وقد وصلت مبالغ نقدية متواضعة منها الى قيادة الحزب والى بيئته مباشرة، خلال الأسابيع القليلة الماضية، لدفع تعويضات لأسر ضحايا الحرب، وللمساعدة في الاعمار. وهي مبالغ لا تقارن مع مبلغ يقدّر بنحو 750 مليون دولار التي أرسلتها إيران نقداً في الأيام التي تلت سريان اتفاق وقف اطلاق النار الذي أنهى حرب العام 2006، وكانت تلك الخطوة يومها واحدة من أكبر مهمات قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني. وقد صرفت تلك المبالغ في أقل من سنة، كتعويضات ومساعدات شملت مختلف المتضررين من تلك الحرب في مختلف المناطق اللبنانية، من دون أن تمر طبعاً، في القنوات الرسمية التي أنشأتها الدولة اللبنانية، لتلقي الهبات العربية والدولية التي فاقت المليار ونصف المليار دولار، وتوزيعها على المستحقين أيضاً.
هذه المرة، الأموال الايرانية التي وصلت الى لبنان، جواً بعدما بات متعذراً نقلها براً أو حتى بحراً، وحملها زوار لبنانيون أو متطوعون إيرانيون، ما زالت أقل من خمسين مليون دولار، حسب التقديرات المتداولة، مع أن الخسائر البشرية والاضرار المادية للحرب الأخيرة تزيد بخمسة أضعاف على حرب العام 2006. وهو ما يمثل مؤشراً مهماً لحضور إيران ودورها في لبنان، لا سيما وأن القيادة الإيرانية، حرصت أكثر من مرة على التنصل من مسؤوليتها عن تفجير الحرب الحالية، (وكذا حرب العام 2006) وعلى الإشارة الى أنها لم تعد تملك السيولة النقدية الكافية لتمويل الحجم الهائل من التعويضات والمساعدات المطلوبة للحزب وجمهوره.
ومن هذه المسؤولية التي تحاول طهران الآن تفادي إعبائها، يمكن الدخول في جدل أكثر أهمية من ذلك الذي جرى في اعقاب حرب العام 2006، يبدأ من حقيقة أن “حزب الله”، كان وسيظل يعتبر واحداً من أكبر مظاهر التوسع الإيراني نحو البحر المتوسط، (منذ عهد الإمبراطورية الاخمينية في القرن السابع قبل الميلاد، بقيادة مؤسسها قورش ثم داريوش، حسب تعبير مسؤولين إيرانيين حاليين!)، ولن تستطيع إيران التقليل من موقعه، حتى ولو كان هدفها الوحيد، هو “الإبقاء على فكرة المقاومة وليس هزيمة إسرائيل، حسب التحليل الشائع حاليا في طهران”. ما زال الحزب، أهم الودائع الإيرانية، حتى الآن على الاقل، برغم الهزيمة القاسية التي تنذر بتفككه في السنوات القليلة المقبلة. وما زال الاستثمار به مجدياً، وملزماً لإيران، حتى من زاوية الاحتفاظ بوجود رمزي على المتوسط، لا يتطلب الكثير من الأموال.. التي يفترض ان ينظر اليها لبنان الدولة واللبنانيين جميعاً، بوصفها “ضريبة” (أو حتى جزية) يجب ان تدفعها إيران الان وأكثر من أي وقت مضى، بدل “تورطها” مع حزب الله في إشعال الحرب الحالية. وعليه يتوقع ان تشجع السلطة اللبنانية وتحمي تهريب الأموال الإيرانية التي تخفف من أعباء تكاليف الحرب. وهو ما قد يستدعي في مرحلة ما فتح حوار مباشر بين الدولتين لنقل هذه الاموال عبر القنوات الرسمية اللبنانية، ووضع إيران أمام مسؤولياتها فعلا.
مثل هذا الحوار ما زال مستبعداً، بدليل تظاهرات طريق المطار التي ربما تهدف الى تعطيله. لكنه سيبقى شرطاً لتنظيم العلاقات بين الدولتين والشعبين، بعد عقود من التسيب والتفلت والاشتباك الإيراني مع دولة لبنان. ولعل في ذلك ما يحفز العودة السريعة الى تجربة العام 2006، عندما إتصل الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، فور سريان وقف اطلاق النار يومها، بعدد من الزعماء العرب وطلب منهم الإسراع في تمويل إعادة إعمار ما هدمته تلك الحرب.. بهدف إبقاء إيران خارج تلك العملية وتقليص نفوذها اللبناني. اليوم تغيرت الظروف والحدود العربية والدولية، ولم يعد قطع طريق المطار كافياً لحفظ الوجود الإيراني في لبنان.. ولا لإنهاء ذلك الوجود.