“نملك ما يزيد عن المليون دولار وأتسوّل لدفع فاتورة والدتي الاستشفائية، أسبوعان وهي تصارع الموت لعجزنا عن تأمين بدل تكلفة عملية فغر الرغامي لها. اضطر الأطباء لتكبيل يديها بالسرير كي لا تنتزع أنبوب التنفس الاصطناعي الذي أنهكها، فما الجريمة التي ارتكبتها حتى تعاقب بهذا الشكل، هل فقط لأنها ائتمنت يوماً المصارف اللبنانية، فسرقتها كما فعلت بآلاف المودعين”؟! كلمات قالتها بحرقة فارونيك مراد.
قبل سنوات باعت والدة فارونيك، شارلوت فاخوري (87 سنة)، قطعة أرض ورثتها عن زوجها، وضعت ثمنها في ثلاث مصارف لبنانية، معتقدة أنها بذلك ستضمن حياة كريمة لها ولبناتها الثلاث اللواتي يعانين من أمراض مستعصية، وتقول فارونيك لموقع “الحرة” “أماني مصابة بسرطان العظام وأنا بسرطان في الدماغ أدى إلى فقداني الإحساس بيدي اليمين، أما شقيقتي البالغة من العمر 60 سنة فتعاني من ضمور دماغي وفوق هذا فقدت بصرها وسمعها، تبكي طوال الليل والنهار، يشفق عليها الناس، يعطونها المال ويشترون لها الطعام، أما شقيقتي الثالثة ففارقت الحياة بذبحة قلبية”.
عمل والد فارونيك كل ما في وسعه، حرم نفسه من ملذات الحياة كي لا تحتاج عائلته بعد وفاته أحداً، لكن للأسف ذهب تعبه هدراً، وتقول “ها نحن اليوم نتوّسل الطبابة والاستشفاء، نسكن في منزل أشبه بخرابة تشاركنا فيه الحشرات والقوارض، فمنذ انفجار مرفأ بيروت و هو في حالة يرثى لها، رغم أننا نملك ما يكفي من المال لعيش حياة كريمة لكن نمنع من الوصول إلى وديعتنا، وذلك في انتهاك فاضح لحقوق الإنسان”.
تبخرت مليارات المودعين لبنانيين وأجانب مع بداية الانهيار المالي في لبنان عام 2019، وفرضت المصارف قيوداً على السحوبات المالية محددة سقفاً لها، وهو ما دفع بعض المودعين إلى اقتحام المصارف لاسترداد ودائعهم بالقوة، نجح عدد قليل منهم باستعادة ولو جزء منها، في وقت لجأ البعض إلى القضاء.
معاناة المودعين تتزامن مع مرور لبنان بأزمة اقتصادية طاحنة “قذفت” بنحو 80 في المئة من المواطنين تحت خط الفقر، وفي ظل شلل سياسي ومؤسساتي يدفع البلاد أكثر إلى قعر الانهيار.
شطب مقنّع للودائع قصدت فارونيك المصارف التي لها وديعة فيها، توسلت عدة مرات مظهرة تقارير والدتها الطبية، إلا أنها كما تقول “عرض اعطائي جزء بسيطاً من أموالي على سعر الصرف الرسمي أي 15 ألف ليرة في حين أن سعر صرف الدولار في السوق السوداء يناهز المئة ألف ليرة، وهذا ما أرفضه بشدة، إذ كيف لي أن أقبل بكل هذه الخسارة”.
كل ما تتمناه فارونيك أن تستيقظ من كابوس حرمانها وعائلتها من حقهن، مشددة على أنها لن تهدأ ولن تستكين وستبقى ترفع الصوت حتى استرجاع أموالهن، ويرى بعض المسؤولين أن حل قضية المودعي ن يكمن في الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي يسمح بسداد جزء من أموالهم، ويعتبر آخرون أن ذلك يتطلب خطة حكومية تعيد هيكلة القطاع المصرفي واقرار قانون الكابيتال كونترول، في وقت راهنت الحكومة اللبنانية والمصرف المركزي على عنصر الوقت في نسيان المودعين لقضيتهم، وهو ما لم ينجحا فيه.
إذ قبل أيام، أعاد المودعون الزخم لقضيتهم، مع تحطيم عدد منهم الواجهات الزجاجية لمصرفي عودة وبيروت في سن الفيل، وذلك بعد عدم التمكن من اقتحام منزل رئيس جمعية المصارف سليم صفير، وفي الأمس نفذوا وقفة أمام قصر عدل بيروت لمطالبة القضاء بالبت بدعاوى المودعين التي هي في مراحل متقدمة، “كون هناك قرارات مبرمة صدرت عن محكمة التمييز إلا أنه تم ايقافها”، بحسب ما يقوله مؤسس “تحالف متحدون” والوكيل القانوني لجمعية “صرخة المودعين”، المحامي رامي علّيق.
ويشدد علّيق في حديث لموقع “الحرة” على أنه “نعمل لإبقاء قضية المودعين حيّة، وهدفنا من التحركات التي نقوم بها الضغط على القضاء كي يقوم بعمل لاسترداد الحقوق وليس الاقتحامات، وكذلك الضغط لتطهير القضاء بطرد قضاة الفساد ليتمكن من القيام بدوره في المحاسبة”.
ورغم الإحباط الذي أصاب عدداً من المودعين، لا بد بحسب علّيق “من المواجهة والعمل لإلغاء التعاميم الظالمة لاسيما التعميم 151 المتعلق بالسحوبات النقدية من الحسابات بالعملات الأجنبية، والذي يحدد سعر دولار المودعين بـ 15000 ليرة، كذلك التعميم 158 حول الإجراءات الاستثنائية المتعلقة بالسحب النقدي من هذه الحسابات وهما بمثابة شطب مقنع للودائع، وقد طعن تحالف متحدون بهما أمام مجلس شورى الدولة والقضية أصبحت في مراحل متقدمة”.
ويشير الوكيل القانوني لجمعية صرخة المودعين، إلى التواطؤ بين مسؤولين وقضاة لإخافة المودعين وإسكاتهم، “ترجم ذلك بقرار مجلس نقابة المحامين في بيروت شطب قيده إدارياً عن الجدول العام للمحامين في مارس الماضي، والدعوى التي رفعها بنك الاعتماد اللبناني ضده قبل معاودة إسقاطها، ودعوى مصرف BLC ضد المودع الطبيب باسكال الراسي وزوجته فاليري فوييه” ويشدد “لن نسمح بإفلات ناهبي أموال الناس من العقاب أيا يكن الثمن، إذ ليس في قاموسنا معادلة عفى الله عما مضى، وقضيتنا موثّقة محلياً ودولياً ونأمل أن يساهم القضاء اللبناني باسترجاع الحقوق”.
وتحقق دول أوروبية مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، المتهم كذلك من قبل القضاء اللبناني بالتورط في شبهات غسل أموال ونهب المال العام وتهريب أموال إلى الخارج، وتم اصدار مذكرة اعتقال بحقه من قبل فرنسا وألمانيا ومذكرة توقيف من قبل الانتربول.
خسائر تتخطى الأموال تسع سنوات عمل خلالها حسن لتحقيق حلمه بشراء منزل، إلا أنه خسر تعبه بعد حجز المصرف على وديعته البالغ قيمتها 40ألف دولار ويقول “ما إن هممت لدفع القسط الأول من شقة وتقديم أوراقي لمؤسسة الإسكان للحصول على قرض حتى تفاجأت بأن الأخيرة توقفت عن منح القروض لتندلع بعد ثورة أكتوبر وتعلن المصارف حجز أموالنا”، ويضيف “بعد ذلك خسرت عملي ما اضطرني إلى سحب ما يُسمح لي من وديعتي على سعر صرف1500 ليرة ومن ثم 3500 ليرة”.
حتى عندما عثر حسن على وظيفة جديدة استمر بسحب أموال وديعته كونه فقد الأمل باستردادها بقيمتها الأصلية، ويشدد “لم أخسر مبلغ مالي فقط، بل حلماً واستقراراً لمدى الحياة، وأنا اليوم أسكن في منزل بالإيجار، ومن المستحيل في ظل الظروف الحالية إعادة إحياء حلم قديم، لاسيما بعد أن أصبحت مسؤولاً عن عائلة”.
من أجل إعادة الودائع المحتجزة في المصارف، سلّمت الحكومة اللبنانية إلى مجلس النواب، دراسة مفصلة بعنوان “كيفية إعادة الانتظام للقطاع المصرفي”، أعدها مستشار رئيس الحكومة سمير الضاهر، جاء فيها أن حجم الودائع يبلغ 93.5 مليار دولار وأن أصول القطاع المصرفي المتبقية هي 21 ملياراً، أي أن هناك فجوة تُقدّر بـ 72.5 ملياراً.
وقدّرت الدراسة حجم الودائع القابلة للدفع ضمن سقف 100 ألف دولار، بـ21.8 مليار دولار، أما الودائع غير المؤهّلة (أكانت دون أو فوق المئة ألف دولار، التي حُوِّلت بعد أكتوبر 2019 من الليرة اللبنانية الى دولار على سعر الـ1500 ليرة الرسمي للدولار الواحد) فقدّرتها بـ 22 مليار دولار، مشيرة إلى أن 5 مليارات من أصل الودائع عبارة عن فوائد، و5 أخرى للأموال التي يشوبها الشك، و4 مليارات ستُحوّل طوعاً إلى الليرة اللبنانية بناءً على طلب أصحابها، إضافة إلى 12 ملياراً ستُحوّل إلى أسهم وحقوق المصارف القابلة للاستمرار.
وتوضيحاً للدراسة، قال نائب رئيس مجلس الوزراء سعادة الشامي خلال لقاء مع جمعية “صرخة المودعين” إن “خطة الحكومة تطرح حلولاً لمشكلة الودائع التي تفوق المئة ألف دولار وليس شطباً لها، كما يصور البعض من خلال صندوق استرداد الودائع، فالحكومة حريصة كل الحرص على الحفاظ على حقوق المودعين إلى أقصى حد ممكن”.
وبحسب بيان الجمعية، ذكر الشامي أن “الحملة التي شنتها المصارف في البداية ضد الخطة التي قدمتها الحكومة، كان بسبب عدم قبولها مبدأ تراتبية المسؤوليات والتي تقضي بشطب رساميلها قبل المس بأي وديعة، وذلك لأن المصارف تتحمل مسؤولية الودائع التي اؤتمنت عليها من قبل المودعين”.
وكان رئيس بعثة صندوق النقد الدولي ارنستو راميريز ريغو رأى في شهر مارس الماضي، أنّ أيّ حل للازمة الا قتصادية الراهنة يجب أن يشمل تعديل السياسات المالية ومعالجة خسائر القطاع المصرفي وتوحيد سعر الصرف، معتبراً خلال مؤتمر صحفي في ختام زيارة للعاصمة اللبنانية شملت لقاءات مع مسؤولين، أن “صغار المودعين هم الأكثر تضرراً، ويعانون أكثر مما ينبغي”، مشدداً على ضرورة توزيع الخسائر بين الحكومة والمصارف والمودعين.
“نوايا شيطانية” “25 سنة من العمل وأنا أنتظر اللحظة التي أتقاعد فيها لأبدأ العيش من أجل الترفيه عن نفسي مستندة على الأموال التي ادخرتها، من دون أن أتوقع لوهلة أن أتعرض للسرقة من المصرف الذي ائتمنته على جنى عمري” بحسب ما تقوله سوسن، مشددة ” في لحظة عدت إلى نقطة الصفر وكأني لم أعمل في حياتي في وقت ليس باستطاعتي أن أبدأ من جديد وأنا في خريف عمري”.
تعيش المرأة الخمسينية في حيرة، وتقول “من المستحيل أن أقبل العمل في مؤسسة، حتى لو سنحت لي الفرصة، وبعد تبخر وديعتي، لا إمكانية لفتح مشروع خاص، ما يعني أنه عليّ أن أنتظر مطلع كل شهر مصروفي من اولادي، فأي عدالة هذه؟ أموالنا سرقت واللصوص على كراسي المسؤولية يحكموننا ويتدارسون إمكانية إعادة الفتات من حقوقنا”.
ذهبت أموال المودعين “ضحية تركيز الطبقة السياسية على المصارف والمودعين بدلاً من الاهتمام بالمواطن والمصانع والمؤسسات التجا رية، بحسب خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد، الدكتور محمد فحيلي، وخلف هذا التركيز كما يصف “نوايا شيطانية”.
فحيلي يشرح أن “خطة التعافي المالي التي أقرتها الحكومة ليست الحل المطلوب لإنقاذ الاقتصاد اللبناني ولإعادة الحياة إلى القطاع المصرفي وتمكينه من الاستمرار في خدمة الاقتصاد، بل إن الحل يمكن في العودة إلى تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 154 (تاريخ 27 آب 2020) الذي يحدد مكامن الضعف ويطرح آلية لمقاربة معالجة معظمها، ولذلك يجب أن يكون الممر الإلزامي لأي إصلاح للقطاع المصرفي”.
ومن ضمن أحكام هذا التعميم طلب المجلس المركزي لمصرف لبنان من المصارف العاملة في لبنان أن “يقوم، كل منها على حده، بعملية تقييم عادل وشامل تساعده على وضع خطة إنعاش وإنقاذ، وأن يقوم كل مصرف بحثّ عملائه الذين قام أي منهم بتحويل ما يفوق الـ 500 ألف دولار أميركي إلى الخارج من 1 يوليو 2017 حتى صدور هذا القرار على اعادة 15 في المئة من القيمة المحوّلة وايداعها في حساب خاص مجمد لمدة خمس سنوات”.
أما إذا كان العميل المعني أحد رؤساء أو أعضاء مجالس ادارة المصارف أو أحد كبار المساهمين فيها، أو أحد الأشخاص ” المعرّضين سياسياً”، فتصبح النسبة التي يقتضي اعادتها وتجميدها لمدة خمس سنوات 30 في المئة من قيمة التحويلات التي تمت الى الخارج.
يشدد فحيلي على أنه “ليس صدفة تهميش العمل بأحكام هذا التعميم من قبل السلطة النقدية والمصارف، كذلك غض نظر مجموعات حماية المودعين عنه هو أمر مقلق” مبدياً استغرابه لعدم اعطاء هذا التعميم أي أهمية من قبل أي من الأطراف المعنية بمعالجة الأزمة المصرفية، لا بل كما يقول “حتى “السلطة الرابعة التزمت الصمت حياله، ورغم أن جمعية مصارف لبنان اعترفت أن جزءاً كبيراً من المصارف العاملة في لبنان عجزت عن الالتزام بأحكامه، لم تتحرك لجنة الرقابة على المصارف لأداء مهامها الرقابية وتحويل ملفات هذه المصارف للهيئة المصرفية العليا لإجراء اللازم”.
غياب الدور الرقابي للجنة الرقابة على المصارف وهيئة التحقيق الخاصة هو السبب الأساسي كما يرى فحيلي “لتفاقم الأزمة المصرفية وتداعياتها الاقتصادية، ولخلق مساحة إضافية لاستباحة أموال المودعين” ويشدد “القطاع المصرفي ليس فاسداً، بل إن بعض من يدير المؤسسات المصرفية هم الفاسدون”.
الحرة